يقول الكثير من الناس أننا نرضي الانكشاف الجسدي في الخارج وننظر إليهِ في وسائل الاتصال من التلفزيون للانستغرام و ما هو أدهى و ألعن ثم نخفي هذا النفاق وراء مقولةِ غض النظر، أو غض النظر المرحلي الوقتي، بمعنى أنه لو حانت الفرصة ينطلق النظر من الحدقتين بتمعن و لو ضاقت الفرصة لوجود رقيب فسنغضهُ. ليس خشوعاً و لا مخافةً من وازعٍ ديني و لكن ممن حولك من المراقبين. و هذا واقعٌ لا يقتصرُ علي الرجل فالمرأة تنظر و لها نفس الحكم و تتبع كذلك ذات التصرفات التي يتصرفها الرجال.
كانت مصيبة سيدنا آدم و زوجهُ سيدتنا حواء رؤيةَ سوآتهما، و هي العورات، و كما وصف القرآن الكريم حالهما لحظتها، فقد أدركا، و لم يكونا مدركان قبلها، مدى فداحة هذا الأمر، فسارعا لتغطية السوأة بورق الجنة. و بعدها و لليوم عند البشر سَترٌ و انكشافٌ فيما يتعلق بالجسد و الأخلاق و التعاملات. سادت في أزمنةٍ المسؤولية للإحساس بالحياء والخجل و التقرب للدين والالتزام بالقانون ثم غلبتهم عاداتٌ و تقاليدٌ مستحدثةٌ اخترعها البشر لضرورةٍ أو للتسلية. لا يرى رجال و نساء بعض القبائل في الأمازون و أفريقيا و غابات آسيا ضيراً في الحياة بدون ملابس. عند القبائل هي تقليدْ و عادةُ حياة. و في الشواطئ حين يتجرد البشر من ملابسهم وبعضهم عراةً بالكامل، و هم المتحضرون عكس تلك القبائل، فهي تسليةٌ و عادةٌ دخلتا نطاق الحرية و الاختيار الشخصي. المضحك أن أجداد بعض هؤلاء المتحضرين أبادوا شعوباً في القارات الثلاث لأنهم كانوا، ضمن أمور متعددة، غير متدينين و مستوري العورات. ثم عاد المتحضرون ليتعروا باسم التحضر. المهم، هناك تجاذبٌ دائمٌ في العالم بين الشعوب للستر و الكشف، و هو عند كل الشعوب و يكتسي بالدين و العادات و الحاجة. لا تدخل السيدة، و قد تكونُ ضامنةَ الحريات ببلادها، لتلتقي البابا في الڤاتيكان، وهي في زيارةٍ رسمية، دون ستر جسمها و تغطية رأسها. هذا هو التقليد البابوي. والراهبات مثالٌ علي الستر المتواصل و جذره إيمانٌ مطلقٌ و نفيٌّ لحاجات الجسد. وعند اليهودية تعاليم الستر واجبة عند طوائف. و نحن المسلمون لنا تعاليمنا المعروفة كذلك. و عند جميعهم معارك تدور بين معسكري الستر و الكشف باسم الدين و باسم الحرية.
لكنهُ صار من الصعب جداً أن تُغَلِّفَ الحكومات و الأديان معظم المجتمعات بغلافِ الستر، لو أرادت. بلادٌ بل معظمها لم يعد يأبه حتى في أكثر البلدان تحفظاً من الناحية الدينية هناك قواعد تُكسر كل لحظة فيما يخص الستر و الكشف، و الناس في هذا مختلفون اختلاف الليل و النهار، و منافقون كذلك في غض النظر كما قلنا في البداية. لكننا نرى ونقرأ عن حالاتٍ في أكثر المجتمعاتِ انفتاحاً و إن كانت استثناءً لا تقبل الكشفِ عن الجسد بعد حدودَ مُعينة. شركةُ طيران أمريكية منعتْ راكبةً من ركوب الطائرة ما لم تستتر. غير مألوف هذا في مجتمعٍ يعبد الحرية الشخصية. و هناك من الأماكن غير الدينية مثل المطاعم و المسارح و النوادي لا يمكنك دخولها دون ملبسٍ ملائم لا تحدده أنت. هو سترٌ ليس بالستر بل تقليدٌ. بكل تأكيد، هناك الشعور بالحاجة للستر عند كل إنسان، ولو كان كاشفاً و عارياً بامتياز الحرية الشخصية. السترُ الذي أعنيهِ هنا و يطلبه المستور والمكشوف هو عدمُ التحديق. رجلاً كان أم امرأة مستتران أم كاشفان يقاومان بالاستهجان و ربما بالشتم و العراك من يحدِّقُ بهما بلا سببٍ واضحٍ. و هنا قد يطول التحديق أو يقصر و سيطول حتماً في حال الانكشاف لأنه جاذبٌ للنفس البشرية الفضولية. أظن أن فطرةَ و طبيعة الإنسان أن يكون خاصاً و لو مشى عاريا، كما اكتشف آدم و حواء في الجنة. فالإنسان يريد أن يتحرر من قيود الملبس و الأعين و يمكنه ذلك داخل غرفته دون فضول لكنه يتحدى نفسه و المجتمع عندما ينقل الحرية للعامة و يغضب عند التحديق به و التعليق. و هكذا تمضي الدنيا، فيكتسي الناس و يتعرون حسبما ترضى نفوسهم بالحرية و يختبرون حدودها دائماً مستندين علي القناعة الذاتية و وازع الدين والخوف من عيون المتلصصين. و العتب عندها هو علي الذين لا يجارون الزمان والمكان. أذكر في بعض الدول في الستينات و السبعينات حينما انتشرت عادة الشعر الخنفسي و الفستان القصير أن مقصات الشرطة لاحقت الخنافس في الشوارع لتقص شعورهم تشويها كما لاحقت لابسات القصير لتدهن أرجلهن بالسواد. و ما نفع المقص و لا الدهان بل زادا من التصميم علي الخنفسة و لبس القصير و تراجعت الشرطة. كما قلنا، أكثر الدول حرصاً علي الأخلاق العامة المتمثلة بالملبس لا تستطيع فرض قوانين كاملة و لا إجبار الناس عليها بالمطلق.
في القرن الرابع عشر هجري و الواحد و العشرين ميلادي نرى الانكشاف يصبحُ الحالةَ العامة، و التحديقُ حداقةٌ و غض البصر مستحيلاً و يمكن أن يكون عند البعض سذاجةً. فأينما اتجهت ستجدُ انكشافاً جسدياً للمرأة و الرجل مما يؤذي العين و العادات و التقاليد و الأديان. لا نعلم لهذا الانبهار بالكشف عن الجسد بهذه الطرق الفجة أساساً إلا ما يتصلُ بالنفس و هواها و التقليد. لم يعد لكلمة العيب من معنىً عميق فهي تتلاشى من كلامنا وتصرفاتنا العامة إلا ما ندر، و لست أبالغ. بل ربما، و هو المضحك و المصيبة، أننا كمجتمع نرضى بالانكشاف الجسدي عاماً و خاصاً لأنه ما من قدرة و عند كثيرٍ ما من قناعة بجدوى الاعتراض. من يتجرأ ليعلن اعتراضاً يوصفُ بالتراجع عن المألوف العالمي الذي وصلنا له. و لا مهربَ إلا في غض النظر المستمر و التجاهل و اعتزال الناس ما أمكن. و هذا غير معقول و لا ممكن. الانكشاف في الشارع و السوق و هي أمكنة عامة، و الانكشاف صار ما تقتضيه مستلزمات اجتذاب السياحة. لا يقدر أحدٌ أن يمنع أشباه العرايا من هذه الأماكن. وقفهم يعني عدم ارتيادهم لها و تعطيل السياحة و التجني علي الحرية الشخصية. مسألةٌ اقتصاديةٌ ومعيشية تركها المشرعون تسير علي هواها. سيسأل البعض عن حدود الستر و الانكشاف. و الحدود معروفةٌ دون جهد. وسيسألون عن الحرية الشخصية و تقييدها. والحرية كما قالوا تنتهي عندما تؤذي. و سيقولون ما لنا و هذا الموضوع "التافه" في زماننا الذي لا يمكن وقف سيله المنهمر من الحريات و أن كل ما يلزم هو أن يلتزم الفرد بحدوده فيقبل الموجود ولا ينظر ولا يشكو و يترك الأمور تسير و تصير. من قال أننا نستطيع وضع حدود أو أن نقيد حريات؟ و بالفعل فإن ما نفعله هو أن نلتزم بحدودنا فنسعى للغض من النظر و لا نختلط كثيرا مع الحياة العامة لكي لا نرى ما يسوؤنا. لكن ما يسوؤنا صارَ مع كثيرٍ من الأسف أكثر شيوعاً مما يسعدنا. لم يقتصر الانكشاف علي المرأة و طال الرجال، في كل الأماكن، حتى وصل للمساجد و إن بالطبع دون قصدٍ. فليس غريبا أن ترى ذلك بين المصلين الذين لا يرتدون ما يليق للمسجد و بعضه يكشف من الجسد ما ينقض الصلاة للأسف الشديد، و حتى هنا بالمسجد صار هناك مطلبُ غض النظر فيما لم يكن هذا مطلوبا في السابق.
أظن أننا نضيع في فوضى بابلية حين اختلط الحابل بالنابل و أننا وصلنا لمرحلة انفكت عنها المؤسسات التي لا تريد التدخل لضبط ما لا يمكن ضبطه. و كيف تفعل هذا و عنوان الزمان هو الإلحاح للتقدم و الثراء و هما لا يأتيان دون فتح الأبواب و كشف الأستار. هي العودة للذات و أخلاق الذات إذاً. الاختيار الفردي. فعندما المجتمع يفقد أخلاقياته و يتحور لنوع هجينٍ من الكيانات، و الذاتُ ترى في هذا ما يؤلمها، فالأفضل أن تتوارى وتختفي ما أمكنها. و ليس هذا معقولاً كذلك.
إنها حيرةُ النفس البشرية. من يقرأ التاريخ يَكَوِّنُ صورة عن المجتمعات السابقة التي وصلت لهذه المرحلة و يستنتج أنها ليست إشارة إيجابية، فرطُ الحريات، بل فارقةٌ حاسمة بين زمانين و حدثين. كتابُ الله يكفي لإثبات هذا. فهل من يعتبر؟