الصحافة الورقية .. مهمة انتحارية بامتياز!
ماهر ابو طير
29-09-2010 03:10 AM
كنا في البصرة ، مطلع التسعينات ، والعراقيون الغاضبون على حفر خندق بين الكويت والعراق ، اخذواً وفدا اعلامياً من اربعين دولة لزيارة "صفوان" ، على الحدود العراقية - الكويتية ، لرؤية الخندق على ارض الواقع.
يومها لا ينسى. فقد وصلنا الخندق الذي يحفره الكويتيون ، والذي اعتبره العراقيون ضدهم ، لانه ادى الى تقسيم المزارع التي يملكها عراقيون على الحدود.
وجدنا الاف العراقيين المزارعين وقد استبد بهم الغضب ، وحملوا انابيب الري البلاستيكية السوداء ، على اكتافهم تعبيراً عن غضبهم ، وخرجت صليات رصاص عراقية في الهواء تم الرد عليها بصليات رصاص كويتية ، وهاج الغبار واسودت الدنيا وسط مناخ مرعب.
كان ذلك يوم سبت. بعد الحادثة وتبادل اطلاق الرصاص. جلست صحفية فرنسية على الارض ، ومعها جهاز "اللاب توب" وكتبت تقريرها الصحفي وهي جالسة بالجينز على الرمال ، وبثته مباشرة عبر جهازها الى الاقمار الصناعية ، ومنها الى وكالة الانباء التي تعمل معها.
دقائق كان الخبر قدعمّ العالم بلغات مختلفة. عدنا الى فندق شيراتون البصرة بعد ساعات. كتبت تقريري للصحيفة بخط اليد مستعملا ريشة جدي التي امتحن بها امتحان المترك ، في زمن المترك والاتراك،.
بحثت عن فاكس فقيل ان لا فاكسات في البصرة. حاوت الاتصال بعمان لنقل القصة الصحفية تلفونياً ، قيل ايضا ان الهواتف معطلة.
يومان في البصرة ونحن نتقلب ، فيما التقرير بثته وكالات الانباء قبل يومين. عدنا الى بغداد ، وفي فندق فلسطين ، تكررت ذات المشكلة.
قيل لنا: "ماكو فاكسات" ، ولا هواتف. مر اليوم الرابع ، وقصتي الصحفية بائسة لا تصل الى عمان ، ولا حتى الى الموصل.
كان الحل في اليوم الخامس ان ابحث عن سائق عراقي ليحمل القصة كما هي في مغلف ويسافر الى عمان ويسلمها للصحيفة ، وبعد ان وجدته في منزله في الثالثة فجراً اقنعته بأخذ المغلف والقصة الصحفية والصور الى عمان.
دفعت له مالا كثيراً على شرط ان يتحرك فوراً الى عمان ، لاننا لا نعرف متى سنتحرك نحن ، والا لاخذت القصة الصحفية بنفسي الى عمان.
مر اليوم السادس. سمح لنا العراقيون بالعودة الى عمان ، وصلنا في اليوم السابع ، نمت من شدة التعب.
في اليوم الثامن دخلت مبنى الصحيفة ، وفوجئت بأنهم لم ينشروا القصة الصحفية الباهتة بعد كل هذا الوقت ، لان المغلف لم يصلهم بعد ثمانية ايام من الواقعة،.
بينما كنت احتسي القهوة محبطاً. اتصل بي موظف الاستعلامات وقال: هناك شخص عراقي يسأل عنك عند الباب. خرجت واذ به السائق العراقي يسلمني مغلفي بيميني ، جن جنوني ، اذ كيف ارسل المغلف للصحيفة ، ثم يتأخر السائق فأتسلم انا المغلف؟؟.
فرق كبير بيننا وبين العالم ، الصحفية الفرنسية بثت القصة وتفاصيل الحادثة ورائحة الرصاص في المكان ، وبعد دقائق جابت العالم ، وانا احتجت الى ثمانية ايام من اجل ايصال تقرير صحفي.
الكارثة كانت انني تسلمت تقريري بيدي ، بحيث سبقت السائق الى عمان ، بدلا من وصوله قبلي ، وكنت كمن كسر عصاته في اول غزواته ، لان تلك كانت اول مهمة صحفية لي خارج الاردن.
مدير التحرير آنذاك قال لي في معرض رجائي بنشر القصة الصحفية ، بعد ان تم حرقها فعلياً بقوله: "انقعه واشرب ماءه" ، وقد فعلت بحيث بقي اثر الحبر على الورق.
تذكرت القصة وانا ارى الفرق بين بين الاعلام الورقي والاعلام الالكتروني في الوطن العربي ، بحيث يحرق الاعلام الالكتروني كل الاخبار ، والانفرادات ، ولا يترك ، سوى القليل.. القليل.
الصحافة الورقية تواجه تحدياً خطيراً ، امام الاعلام الالكتروني ، الذي يزداد عدد مستخدميه ، ويزداد تأثيره على الرأي العام ، والفرق اليوم بين الجهتين كذات الفرق بين قصة الصحفية الفرنسية ، وقصتي التي قمت بنقعها وشرب ماءها ذات يوم.
ان لم تنافس الصحافة المطبوعة تلك الالكترونية ، بأخرى الكترونية تدخل السباق بعنف ، فسيتحول اصدار "المطبوع" الى مهمة انتحارية بامتياز ، وفي الذاكرة اسماء لشهداء وجرحى جراء اصدار الصحافة الورقية ، والقائمة مفتوحة حتى اشعار آخر.
"انقعه واشرب ماءه".. وما اكثر من ينقعون دون ان يعرفوا،.
mtair@addustour.com.jo
الدستور