نجونا من كورونا لكننا لم ننجوا من آثارها
نور الدين نديم
28-08-2022 10:52 AM
بعد كورونا أضحينا نرى "ضيق الخُلق" و"فرفطة الرّوح" في سلوكنا اليومي وتعاملاتنا مع بعضنا البعض، نغضب لأقل الأشياء ويحتد مزاجنا في مواقف لم نكن نلقي لها بالاً من قبل، ضيف لجار طرق بابنا بالخطأ، موظف مطعم أخطأ في تحضير الطلب، سائق طلبات ما معاه "فراطة"، زامور سيّارة أو ترميشة ضوء على الإشارة..
بعد كورونا لم نعد كما كنّا، وكأن كورونا لم تكن مجرد وباء يصيب أجسادنا، بل أكثر من ذلك فقد نالت من أرواحنا وطباعنا وحياتنا، ولن نجد سبيلاً إلى راحة البال وسكينة النّفس إن لم تتعافى أرواحنا سريعاً، ولن نتعافى إن لم نقف على الأسباب ونسعى جادّين لايجاد الحلول.
لا شك أن أزمة كورونا أحدثت العديد من الهزّات الارتداديّة التي مسّت الاقتصاد العالمي بالاضطراب، ولأننا كنّا نعيش قبل كورونا أزمة اقتصاديّة متوسطة الدرجة أدت الجائحة إلى تفاقم الأزمة وارتفاع مؤشرها إلى شديدة الدرجة، مما أدى إلى إرتفاع نسب الفقر والبطالة.
كما خلّفت آثاراً سلبية ليس من السهل محوها من الناحية الاجتماعية، كان من أبرزها ازدياد حالات العنف الأسري وحالات الطلاق والتفكّك الأسري.
حتّى الجانب التربوي التعليمي لم يسلم من انعكاسات الجائحة فكان حجم الفاقد التعليمي واضطراب البناء التراكمي التربوي القيمي المسلكي لأبنائنا الطلبة أكبر بكثير من قدرة أدوات وإمكانيات المؤسسة التعليمية الرسميّة.
وتشير المعطيات أن التعافي من هذه الأزمة لن يكون بالسهولة بمكان ولن يكون بالمدى القريب، وسيعتمد في سرعته على ثلاثة أمور هي:
- متانة الاقتصاد قبل الجائحة وقدرته على الاحتمال وترميم نفسه.
- قوّة البنية المجتمعيّة الأخلاقية والقيمية التي نمتلكها.
- حكمة المسؤول وقدرته على إدارة الأزمة.
لن يحل مشاكلنا كثرة اللطميات وندب الحظ والبحث عن شماعة نعلق عليها ما أصابنا، وسنبقى بدائرة التذمر والاتهام المتبادل حتى نصل إلى نقطة "الكل يخسر" وبالتالي يخسر الوطن ونخسر الوطن لا قدّر الله.
فرفقاً بأنفسنا ولنفقه الواقع ونتعاطى معه على قاعدة "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ولندرك أننا إن لم نتسع لبعضنا البعض ونتراحم قبل ان نطالب بأن ترحمنا الحكومات ويرحمنا الآخر لن نتمكن من ايجاد مخرج آمن.
وإذا لم نمتلك سعة الأفق والمرونة في التعامل فلن نستطيع التعامل مع المستجدات ونطور من آليات علاجنا للآثار التي خلفتها الجائحة.
إننا بحاجة ماسّة اليوم قبل أي وقت مضى أن نقدم التربية فعلا على التعليم، وأن نخصص مادة منفصلة "قائمة بذاتها" في التربية الأخلاقيّة تجمع الجميع دون استثناء على منظومة قيمية وعادات مسلكيّة واحدة منتظمة بعقد الموروث والعادات والتراث الذي به نباهي ونفخر.
عندما نستخدم مصطلح "ضيق الخُلق" لا نستخدمه للتعريض أو التشكيك "لا سمح الله" بأخلاقيات مجتمعنا الراقي والرائع بطبعه وطبيعته، ولكن لأنه أضحى متداولاً وذو معاني بديهيّة، تتعلق بأغلبها بالحالة الاقتصادية للفرد والعائلة، وأدت إلى آثار سلبية زادت في الآونة الأخيرة ونلمسها في سلوكنا اليومي مع بعضنا البعض بعبارة نرددها كثيراً " ياخي النّاس صارت مش طايقة حالها، بتفشّشوا ببعضهم البعض".
هذه الحالة الاستثنائية من "ضيق الخُلق" لا تشبهنا في أي شيء كُنّا عليه وكان عليه أجدادنا من قبل.
ربما لأن الأجداد كانوا يتعاملون مع أي ضائقة وضنك في العيش يصيبهم، وفق مفاهيم إنسانية مباشرة ومبادئ أخلاقيّة مطلقة ومُلزمة لجميع أفراد المجتمع، مصدرها الدّين والإيمان المُطلق بالله.
بينما الأخلاق أو القيم التي تسود في الحياة العامة في زماننا قد اختلفت عمّا كان عليه أجدادنا، فقد تملكتها الماديّة وسيطرت عليها العلاقات المصلحيّة، والأنا للفرد تغلبت فيها على نحن المجتمع.
حتى ما كان لديهم من إجماع على ما هو صواب وما هو خاطئ اجتماعيّاً قد بدأ يتزعزع بشكل قوي في زماننا نحن.
والسؤال: هل كُنّا بحاجة إلى صفعة قويّة كجائحة كورونا كي نستيقظ ونتنبه إلى المنزلق الأخلاقي الاجتماعي الذي بلغناه؟
وهل تعلمنا من درس "كورونا"؟
وهل نستطيع النهوض من جديد ونفض الآثار السلبية التي شوّهت ملامح مجتمعنا وعلاقاتنا ببعضنا البعض؟
إننا بحاجة ماسّة أن نستعيد تواصلنا الدافئ داخل عائلاتنا الصغيرة والممتدّة، وبحاجة لتعميق مفاهيم مشتركة واضحة حول الصواب والخطأ بما يحترم قيم الدّين والموروث، ويضبط إيقاع السلوك العام برقابة ذاتيّة قبل أن تكون خاضعة لسلطة القانون.
وعلينا أن نُقر بحقائق جديدة فرضت نفسها ولا يمكن تجاهلها وهي قوة المال والعلم "التكنولوجيا".
كما أننا مطالبون بالعمل على إنتزاع أبنائنا من ضيق الأفق المتمثّل في عبادة الوظيفة والانغماس فيها كحبل نجاة وحيد لعيش كريم، وأخذهم إلى عالم الريادة والإنتاج والعمل الحر المدعوم بقراءة واعية للسوق واحتياجاته، والخروج من ضيق الجغرافيا إلى العالميّة في الفعل والتفاعل.
مع التأكيد على البناء الأخلاقي كي لايتحول أبناؤنا إلى آلات صمّاء للجشع المتمثل في صنع المال وجمع المزيد منه.
بالخلاصة هناك مخرج لهذه الحالة من ضيق الخُلق بمسارين لا يجوز الفصل بينهما، مسار الحقائق والمعطيات المنطقيّة العقلانية لسوق العمل وفضاء الاقتصاد العالمي الحديث، ومسار البناء القيمي وأنسنة الحداثة وتنمية الأخلاقيات المهنية.
حتى نتمكن من النجاة والتحكم في مصيرنا والتحرر من قيود التداعيات الانفعالية واللا إنسانيّة، والعودة إلى طبيعتنا العفويّة الإنسانية الدافئة واسعة الأفق وبعيدة النظر، والانتقال من حالة "ضيق الخُلق" الطارئة علينا إلى حالة "رحابة الصّدر" الأصيلة فينا.