مركز وطني لمناهج الجامعات وشهادة الجودة العلمية
د. إبراهيم الخالدي
27-08-2022 11:51 AM
ثمة مظاهر كثيرة للفساد، تشمل كل ألوان التفاعل الإنساني ، وتكاد تطال كل شيء في حياتنا تقريباً ؛ وذلك لضعف الوازع والروادع من جهة ، وقوة إغراءات الفساد من جهة أخرى ، وهو أمر مخالف للفطرة ، وتأنف منه الطباع السوية الطاهرة العفيفة ، ولا تسنده أية ذريعة ، أو تقوم دونه حجة ، أو يسوغه ظرف خاص ، ويمثل التعاطي معه ، أو المشاركة فيه ، أو إقراره ، أو مجرد السكوت عنه ، جرائم لا تغتفر ، لأنه من أنواع الحرام الذي اتفقت الشرائع السماوية على إنكاره وتحريمه .
ومهما يكن من أمر ، فإنه لا يسوغ الفساد في البضاعة ، ولا في المال ، ولا المعاملات عموماً ، وهي المراتع التقليدية للفساد ، التي ينصرف الذهن إليها عندما يذكر الفساد ، ولكن الذي يثير الاستغراب والاستهجان أن يمتد الفساد ليطال الفكر والأدب والعلم ومناهج التدريس! والذين استمرؤوا الفساد وتربوا عليه ، قد تجاوزوا كل الحواجز الخلقية ، واقتحموا الحصون المنيعة التي اتفقت الفطر السوية على عدم الاقتراب منها ، حتى وصلوا إلى العقول والقلوب والضمائر والأذواق ، فعاثوا فيها فساداً وإفساداً ؛ ذلك لأنهم لا تحدوهم قيم نبيلة ، ولا أخلاق حميدة ، ولا قوانين رادعة ، ولا دين قويم .
وإذا كان لا يسوغ كذلك أن يصدر الفساد من العامة أو سواهم من الطبقة العادية، التي يسهل عليها أن تنزلق نحو الفساد وتتمرغ فيه لضعف الضوابط القيمية لديها وهشاشة موانع الانزلاق عندها، فكيف يسوغ أن يصدر من النخب الفكرية والتعليمية والتربوية والموجهين وأصحاب الأقلام ؟، هذا السؤال يوجه إلى أولئك الذين تسلقوا محاريب الأدب والعلم، وتفيئوا أفياء التربية والتوجيه ، وتبَوَّؤُوا مناصب التدريس في الجامعات والمعاهد والمدارس ، أو تم حشوها بهم قسراً بفعل الواسطة ، التي هي أوسع أبواب الفساد الإداري وأشهرها .
وسرعان ما أدرك هؤلاء أن هناك أبواباً أخرى للفساد مفتوحة ، وميادين رحبة ، فولجوها غير وجلين ، ولا مترددين ، ولا مبالين بمبادئ الدين الجليلة ، أو بالقيم النبيلة ، أو الأخلاق الحميدة ؛ لأنها لا تعنيهم بشيء ، وليس لها معنى عندهم إلا بمقدار ما تحقق لهم المنافع الشخصية الدنيئة ، والمصالح الضيقة الآثمة ؛ فانتحلوا الأبحاث ، ونسبوا إلى أنفسهم الأفكار والنظريات ، وسرقوا جهود الآخرين ، وألفوا الكتب ( الإنترنتية ) وهي ما يعرف بكتب القص واللصق ، وتبجحوا بكثرة المؤلفات ، والسرعة الفائقة في إخراجها واعتمادها بطرائق ملتوية للتدريس في الجامعات ، رغم خلوها من العلم ، والأدب ، والفن ، والذوق ، والطعم ، والرائحة .
وبما أن هذه الفئة الفاسدة قد استمرأت الفساد واستعذبته ، فأصبح دينها وديدنها ، ويصعب عليها أن تتخلى عنه تحت أي ظرف ، مستفيدة من مظلة الوظيفة الحلوب ، وغفوة الرقيب ، وضعف القانون ، وسكوت العارفين على الخطأ ، وقد بلغ الفساد ذروته في هذا المجال حتى شوه صورة جامعاتنا ، وشوه سمعة الأردن من هذا الباب أو كاد ؛ لكثرة إنتاجنا الفكري المطبوع المتدني النوعية ، حتى صرنا حالة فريدة لا شبيه لها ولا مثيل ، ولا بوادر تلوح في الأفق لاجتثاثه أو وقف زحفه وانتشاره ؛ وإذا ذاك فقد يكون في الاقتراح التالي حلاً عملياً لتجفيف منابعه واستئصاله من جذوره، بما يعيد لجامعاتنا صورتها المشرقة وللأردن هيبته ومكانته العلمية المرموقة التي كانت، بل أفضل مما كان بحيث يبقى موئلاً للعلم والفكر ومحجاً لطلاب العلم والدارسين من العرب والأجانب .
ينص الاقتراح في أحد بنوده على أن توحد الكتب المقررة والمناهج التدريسية في الجامعات الأردنية كافة، ولاسيما في المواد الأساسية المشتركة العامة ، ويترك للجامعات هامش صغير من الحرية في هذا الأمر بما يدفعها للتميز والانطلاق ، شريطة ألا يسمح للفاسدين باستغلال هذا الهامش للإثراء بلا سبب أخلاقي، وأن تلزم الجامعات في هذا الأمر ، بحيث لا يجوز لها اتخاذ مناهج خاصة بها على حساب هذا المشروع الوطني الرائد .
إن هذه الفكرة ، فكرة توحيد الكتب والمناهج في الجامعات ليست جديدة وليست فريدة في بابها ، ولن نكون بدعاً في هذا الأمر ، فقد سبقتنا إلى هذه المكرمة دول عديدة، منها العراق تحديداً وسواه من الدول العربية الشقيقة التي عملت بجد منذ عقود طويلة على توحيد المناهج وضبط التعليم مؤسساتها التعليمية، وبالتالي ضبط عملية التأليف والنشر ، وهو ما رفع سوية التعليم فيها، انعكست آثاره الإيجابية في مستوى الخريجين ، ونوعية ما قدموه لأوطانهم ولأمتهم عامة، ويمكننا الاستفادة من تجارب هذه الدول في هذا المجال .
وهذا الأمر يقتضي بالضرورة تأسيس مركز وطني برعاية رسمية وقانون خاص ، تحدد فيه غاياته وأهدافه بقانون إنشائه، وأن تشكل لذلك لجنة خاصة من العلماء الأجلاء المخلصين ، تكلف بإنشاء المركز الذي يهدف إلى إعداد المناهج التعليمية للجامعات ، بطرائق علمية وفنية عالية المستوى ، وتقوم بعمليات التوجيه والتنسيق بين نشاطات المركز والجامعات المتعاونة والخبراء والمؤسسات التعليمية المختلفة ، وتعمل على تشكيل لجان فرعية مؤهلة ذات خبرة ودراية في إعداد المناهج وتأليف الكتب ، ولا يشترط أن تكون هذه اللجان دائمة أو مفرغة تماماً لهذا الأمر ، بل تتجدد وفق الظروف والأحوال ، وقد يستعان بخبراء ومختصين من خارج المركز لهذه الغاية ، بحيث تختص كل لجنة منها بفرع معين من فروع المعرفة ، وتعمل على إعداد كتاب من الكتب المقررة الأساسية المتخصصة ، ضمن شروط معينة ومعايير نموذجية ، بحيث تصبح هذه الكتب مراجع معتمدة للتدريس في الجامعات الأردنية كافة ، على أن تكون جيدة الإعداد من حيث قوة المادة العلمية وحداثتها ، وسلامة اللغة والتعبير ، وجودة الإخراج والتنضيد ، مزودة بالصور والرسومات التوضيحية والملاحق الشاملة ، وأن تتم مراجعتها عدة مرات ، بحيث تصدر خالية من العيوب التي تطفح بها الكتب الحالية . ويراعى فيها القيم النبيلة والأخلاق الحميدة ، التي تنطلق من قيم الدين الإسلامي الحنيف ومبادئه، وأن يصدر قانون خاص يلزم الجامعات والمعاهد بألا يقر أي كتاب للتدريس فيها إلا بعد حصوله على موافقة المركز الوطني للمناهج ، وأية مخالفة لذلك تستوجب المساءلة والعقاب .
فإذا ما أعدت الكتب بهذه الطريقة وفق معايير المركز النموذجية، يتم بيعها للطلاب عن طريق الجامعات نفسها ، بحيث يدخل ريع هذه الكتب في موازناتها ، وبذلك نكون قد غطينا جزءاً من العجز الذي تعاني منه تلك الموازنات، كما نكون قد أوقفنا تطفل المؤلفين وجشع الناشرين ، وقطعنا عليهم الطريق في ابتزاز الطلبة والجامعات، ووفرنا مبالغ كبيرة ندعم بها موازنات الجامعات التي تعاني من مديونية ثقيلة ، ما تفتأ تتطفل على موازنة الدولة فتزيدها عجزاً على ما فيها من عجز دائم .
فإذا ما علمنا أن عدد الطلبة على مقاعد الدراسة حالياً يصل إلى نحو من 284 ألفاً ، وهو رقم هائل بالنسبة لدولة صغيرة كالأردن، ويستحق الوقوف عنده ومراجعته، والنظر في سياسات القبول ومطالب التخرج ؛ ومهما يكن من أمر ، فإنه بإجراء عملية حسابية بسيطة، نجد أن مجموع ما يدفعه طلبة الجامعات الأردنية، ثمناً للكتب المقررة أو تصويرها، خلال سنوات دراستهم الجامعية، يتجاوز المئة وأربعين مليون دينار ، يذهب ثلثاها إلى مؤلفي الإنترنت ومكاتب النسخ والتصوير، نستطيع بتنفيذ هذا الاقتراح توجيه هذه الملايين إلى ما يخدم الجامعات نفسها .
وأهم ما في الأمر توفير مادة علمية سليمة رصينة للطلبة ، تصلح مراجع علمية محكمة ، يفيدون منها ويحتفظون بها في مكتباتهم الخاصة، وقد تسوق هذه الكتب ؛ لما في مضامينها من جودة ورصانة وفائدة علمية ، في جامعات الدول العربية والإسلامية ، وللراغبين في اقتنائها من خارج الجامعات ، وهو ما يدعم موازنة المركز نفسه ، بل موازنة الدولة ذاتها ، فنكون بذلك قد أفدنا طلبتنا وجامعاتنا وجمعنا إلى التعليم قيم التربية التي تآكلت شيئاً فشيئاً في جامعاتنا بفضل سياسات خاطئة ، غير منسجمة مع قيمنا وثوابتنا الدينية والوطنية .
إن إنشاء مثل هذا الصرح الحضاري سيضيف لبنة جديدة إلى جانب اللبنات الحضارية القائمة في بلدنا ، فقد كان لنا تجارب سابقة في إنشاء المراكز الوطنية الرائدة ، التي تمثل مفخرة للأردن ، وصورة من صوره الجميلة الكثيرة . فهناك مجمع اللغة العربية الأردني ، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ( مؤسسة آل البيت ) والمركز الجغرافي الملكي ، والمركز الوطني للوثائق والمعلومات ، ومتحف الكتب المدرسية ( الذي يعد الوحيد في العالم باعتراف اليونسكو ) وسواها من الصروح العلمية والفكرية الرائدة في فكرتها وفي نشاطاتها .
كما كان للأردن فخر إعداد القانون المدني الأردني، بهمة كوكبة من علمائنا الأجلاء، الذي تبنته جامعة الدول العربية ، ثم ما لبث أن اعتمدته الدول العربية والإسلامية كافة، ويعد المرجع الرئيسي فيها ولا مرجع سواه في بابه يرجعون إليه .
وما تزال عقولنا وهممنا والحمد لله هي الثروة القومية المتجددة المستدامة التي نعتز بها ونفتخر ، وبوسعها أن تقدم المزيد من الأفكار الإبداعية الأصيلة المفيدة ، ويمكنها تكرار التجربة في ميادين أخرى ، بما يخدم وطننا وأمتنا في كل مجال نجد أنفسنا رواداً فيه .
وقد يعتمد المركز مرجعاً وطنياً أو عالمياً للحصول على شهادة أو وثيقة تثبت جودة الكتب للنشر والتوزيع ، بما يقابل شهادة ( الآيزو ) العالمية ؛ فالمؤلف الذي يرغب في الحصول على شهادة التميز لكتابه ، له الحرية متى أراد أن يتقدم إلى المركز بمخطوطة كتابه للحصول على تلك الشهادة . والكتاب الذي يدخل في سجلات المركز ، ويحصل عل ختمه وشعاره وشهادة بذلك ، يعني ذلك أنه كتاب متميز ، ويستحق أن يطبع ويوزع ويقرأ ؛ لما يحمله من ختم الثقة بجودته وأصالته ، وسلامته من الأخطاء الفكرية واللغوية ؛ بما يعزز قناعة القارئ بجودته وفائدته العلمية ؛ ذلك أن أكثر المؤلفات ذات المضامين الضعيفة السيئة ، التي تخلو من الأصالة والإضافة العلمية والسلامة من العيوب والأخطاء ، قد أحبطت الكثيرين من القراء والدارسين ، حتى فقدوا لذة القراءة ، ومتعة التفكير ، ونهم المعرفة .
وبهذا الأمر يستطيع القارئ أن يميز بين الغث والسمين من المؤلفات ، بعد أن كان يخدع بتصاميم الأغلفة المضللة ، فيقبل على شرائها ظناً منه أن الغلاف يعكس جودة المضمون ، ولا يكتشف أنه مخدوع إلا بعد أن يكون قد تورط في شراء كتاب لا يستحق ما دفع فيه من ثمن .
ولكي يتحقق تنفيذ هذا الاقتراح ، فلا بد من جملة أمور متعاضدة متآزرة ، يأخذ بعضها بزمام بعض ، هي : قناعة تامة بجدوى إنشاء مثل هذا المركز الوطني ، وعقول واعية تؤسسه وتشرف عليه ، وهمم عالية تنهض به ، وإرادة قوية تسرع بإنجازه ، وضمائر مخلصة تحرص عليه ، وإيمان بالواجب تجاه العلم والوطن والأجيال الصاعدة .
فإن توافرت هذه الأمور بدرجة مناسبة ، فلا شك أن هذا الاقتراح سيأخذ سبيله إلى التطبيق بيسر وسهولة ، وسيتم تنفيذه بأسرع ما نتوقع ، وستتحقق الفوائد الجليلة التي أشرنا إليها بالصورة التي نرومها وأزيد . وأنا على مِثل اليقين ، أنه بإنشاء هذا المركز الوطني ، نكون قد أسسنا صرحاً علمياً اقتصادياً فاعلاُ ، يدر علينا دخلاً يفوق ما يدره مجمع صناعي كبير ، فضلاً عما ما يحققه لنا من سمعة علمية وطنية تنساح في الآفاق ، وتتجدد بتجدد الليل والنهار .
والله الهادي إلى سواء السبيل ، والمستعان في كل الأحوال .
Ibrahimbader90@Gmail.com