تلك هي المسألة: تعلّموا ما تحبّوا لتبدعوا
بهاء الدين صوالحة
21-08-2022 01:59 PM
لن يسامحنا التاريخ، عمّا اقترفناه من خطايا ومارسناه -وما زلنا - من تنمّر ومقامرة على مر العقود الماضية بحق التعليم الجامعي تحت ذريعة "متطلبات سوق العمل"، حتى وجدنا أنفسنا وبلادنا اليوم تعجّ بأكاوم من حملة الشهادات الجامعية مما تطرب له النفس لإيقاع مسميات تخصصاتها، فيما قمعنا بأيدينا وأمراضنا النفسية والمجتعية والإدارية العقيمة كلّ مبدع وبارع بعد أن أرغمناه على ترك تعلّم ما يُحبّ ويُتقن لصالح ما يشتهيه سوق العمل، فكانت النتيجة أن برعنا في إنتاج وتوليد كائنات جامعية معلّبة وظيفتها أن تؤدّي لا أن تفكّر أو تبتكر، وأشغلناها بمهمة ملىء الجيوب عوضاً من ملئ العقول.
لم تكن أولى الخطوات عندما أهملنا في مرحلة سابقة العلوم والآداب الأساسية في المدارس، بل أتبعناها بأن حوّلنا الجامعات من بيوت معرفة إلى حاضنات لتفريخ الموظفين تبعاً لرغبة السوق وتقلّباته.
ولم نكتف عن هذا الحدّ بل ذهبنا بتوجهاتنا إلى ما هو أبعد، عندما ابتكرنا ما اصطلح على تسميته بالتخصصات "الراكدة والمشبعة" لتسقط بذلك حزمة واسعة من الاختصاصات ومشارب المعرفة الأصيلة، متناسين أن تلك الصنوف حيّة لا تموت ولا تمرض ولا تسقط بالتقادم، وأن "بضاعتها" غير قابلة لسياسة العرض والطلب، وأن لديها من القابلية لتوليد نفسها من جديد بما يتناغم وكل عصر، لا أن تلحقها صفة "العنوسة" وقد فاتها قطار الزمن!.
فذهبنا إلى التغوّل صوب كل تجاه؛ حق الطالب في دراسة ما يرغب ويميل إليه، وأعدمنا قائمة من الخيارات الدراسية العريقة والأساسية على مقصلة "العرض والطلب"، وعلينا التأمل – على سبيل المثال لا الحصر - كيف وجد أصحاب القرار أنفسهم في "ورطة" اليوم عندما قرروا إعادة إدراج منهم "الفلسفة" في التعليم المدرسي، أمام شحّ بيّن في أصحاب الاختصاص المؤهلين لتولي هذه المهمة، لماذا؟ لأن تخصص "الفلسفة" أسوة بأشقّائه من التخصصات "المشبعة" تعرّض ومنذ وقت مبكّر لذات النهج من "التركيد" والتنفير.
وكان من ثمرة تلك التخبّطات أن التفتنا إلى بيئتنا فوجدناه وقد أصابتها التخمة من حملة الشهادات، في حين أنها بدَت خاوية من كل مبدع وصانع فكر وممن تأول إليهم قيادة الأمم نحو التقدّم والرفعة والازدهار فأصابنا العُقم في إنجاب "المؤرّخ، والفلكي، والفيلسوف، والمنظّر، والعالم، واللغوي، والتربوي، والكيميائي، والفيزيائي، والموسيقي، والرسّام، والنحّات، والرياضي، والكاتب، والشاعر، والمشرّع، والفقيه، والمعماري، والمبتكر، والإداري، والسياسي والإعلامي .. الخ"، من المبدعين والبارعين القادرين على تحفيز قوانا الناعمة، وفرّغنا شريحة النخب الواجب الإتّكاء عليهم في قيادة مشروعنا النهضوي.
وفوق ذلك، حرّضنا مجتعماتنا المصابة أصلاً بمتلازمة "الألقاب" على تضخيم أمراضها ونظرتها الاستعلائية تجاه قطاع واسع من التخصصات ضمن نظام فرز "عنصري وطبقي" تفرضه عقلية مستبّدة تطلق أحكاماً نافذة وقاطعة بحق خيارات خريجي الثانوية العامة تبعاً لنتائجهم دون أدنى اعتبار لميولهم، حتى بات "التفوّق" في بعض الأحيان عبئاً على "الطالب" المُرغم رغم أنفه على التخلّي عمّا يرغب لإما لإشباع "عُقدة" ذويه المتعطّشين للقب "أبو وأم الدكتور/ المهندس" وإما للرضوخ لـ "ترند" تخصصات "الموضة"!.
أما "الغلابة" الآخرين، فلا عزاء لهم سوى الذهاب إلى التخصصات "المغضوب عليها" والتي تلطّخت سمعتها بفعل تلك القوالب الذهنية والإدارية والمجتمعية الخشبية، فالظفر بأي مقعد جامعي أي كان خيرا من غيره، وبأسوأ الأحوال تصبح "معلمّاً" أو "موظّفاً" و "إذا شدّيت حالك" يمكنك إكمال دراساتك العليا لتعويض لقبك المأسوف عليه لاحقاً، لنصبح أمام أفواج بشرية جاهزة للتكديس على رفوف البطالة.
ولا أعرف تحت أي بند تنموي ولصالح من كُتب علينا ألا يكون لدينا المعلّم البارع، أو الموظف الحكومي المبدع، أو حتى التقني الماهر، حدث هذا عندما تحوّلت "الشهادة الجامعية" إلى غاية بحد ذاتها مفرغة من مفهوم "التحصيل العلمي" تحت شهوة "التحصيل المالي"، وقُمِع أصحاب المواهب والمبدعين في رسم خارطة طريقهم بقلمهم هم بل بسيفنا نحن.
محصّلة القول؛ فلنعتق رقاب وأرواح أبنائنا، لنمنحهم فسحة الاختيار في تعلّم ما يحبّون ليبدعوا فيما يتعلمّون ويعملون. ارفعوا عنهم قبضة وصايتكم وأعيدوا الحياة لعقولهم .. امنحوا صكوك الحرّية لجامعاتنا ولا تقحموها في مزادات النخاسة، لا تتجرّأوا على أمّهات العلوم ومشارب المعارف، عبر اللهو بكبسة "ON/OFF"، بل جوّدوا مخرجاتها واثْروا أدواتها وطوّروا مداركها، ولا تحرموها من مدعّمات غذاء العصر من فنون ومهارات الاتصال واللغويات والبرمجيات والريادة والبحث والابتكار، فقد أصابنا "الركود" بفضل "التشبّع" من جيوش الخرّيجين ونتشوق لطلائع المبدعين!.