كتبتُ في السابق وغيري كتَبَ وناشدَ وآخرهم الكاتب ماهر أبو طير في "عمون" عن موضوع الضجيج والفوضى في بيئتنا. لقد حان الوقت لتصحيحٍ لا بد منهُ لكي لا نغرقَ في أوحال هذه الفوضى التي رأيناها في بلادٍ عديدة وللدرجة التي لن نتمكن من الخروج منها إلا بتكاليف عالية.
يبدأُ نهارنا بالإزعاج السمعي وينتهي بهِ. ويمر بالتلوث الحِسّي الذي يصلك بكل الوسائل والسبب فيه ناسٌ لا يرونه أو يرونه ويستمتعون به.
كيف يصلُ مجتمعٌ لدرجةِ اللامبالاة هذه في دورةِ حياتهِ العامة اليومية؟ تعتقدُ أن مَنْ واجِبَهُ متابعةَ التعليمات والقوانين هو من يتغاضى عنها حين تُرتكبُ أمامهُ.
بمنطقتنا التي خاضت الانتخابات البلدية قبل أشهر قليلة لم نَرَ رئيس البلدية يجول في الأسواق ولا لوناً أصفر وأسود تُصبغُ به أرصفة ولا أرصفةً يمكن المشي عليها ولا حاويةً للقمامة لا تنتشر القمامة حولها ولا تشكو هي من كونها قطعةَ قمامة! وبمنطقتنا كذلك اختار أحدٌ ما أن يخطَّ سيرةَ حياته على الاسمنت المسلح الجديد لأحدث تقاطعٍ افتتحه رئيس الوزراء.
ولليوم هذه المعلقة لا تجد من يمسحها. على مقربة، شارعٌ فرعيٌ لا يزيد طوله عن مائتي متر وعرضه عن ثمانية أمتار أخذوا لِمَدِّهِ أكثر من عام. لا ترى داخل المنطقة خطَّاً لشارع يحدد الاتجاهات ولا سهماً بل مطباتٍ سوداء كارثية و حفرةٌ وراء أختها وفي حال امتلاء بعضها بالماء هناك سِرْبٌ من البط يستحم بها! و كراجات غسيل السيارات هي بجانب المطعم والعيادة والمخبز والخرفان المعلقة تقطر دماً وللنظافة غطوها بأكياس شفافة.
هذا عدا عن الشاحنات الزاعقة والدراجات النارية للتوصيلِ والتدليلِ كلها تزرق بسرعة البرق للرزقة وللفشخرة. لا ترى تطويراً لمعالم ولا حديقةً ولا زهوراً زرعت أو شجراً مُقَلَّماً بل انتقالاً من البشع للأبشع يحدوه الرغبة الانانية للانتصار علي البيئة والبشر وإن لم يعجبك إشرب البحر.
والحمدلله كلنا متعلمين وأولاد ناس ونفهم ونرى لكن كل ما هو في الحي والشارع والسوق يقول لنا أننا عكس تصورنا لنفسنا. من المسؤول؟ هل أقف مثلاً لأعترض علي بائعٍ يجول بالصوت الميكروفوني أو سيمفونية الغاز التي طرحوا استفتاءً حولها قبل أشهرٍ طويلة لم نعرف نتيجته. أم أزرع الدوار بالزهور وأصبغ الأرصفة والمطبات؟ طيب ما هو دور البلدية والأمانة والوزارة؟
أعجبني أن السعودية فرضت هنداماً لسائقي سيارات الأجرة وعقوبةً على الصياح. ورأيت برنامجاً عن سوق السمك بإحدى الإمارات نظافته تضاهي نظافة مستشفى. و لا أريدُ أن يُقالَ لي رَ عواصم ليست بنظافةِ وحلاوةِ عاصمتنا. فقد رأيتها وعشت بها ولكن المقارنة هي مع الأحسن وليس الأسوأ.
كل العواصم جميلة عندما تصورها من فوق وخاصةً بالليل مع إضاءة الشوارع لكن اقترب وانظر لترى الحقيقة. مع استثناءاتٍ معدودة فإن العاصمة والضواحي بحاجة لنفض أو تعزيل. يزداد الطين بللاً باحتلال الأراضي الفارغة لإقامة الحفلات الشعبية فيها بما تشمله من غناء أشبه بالزعيق وبهرجةً كهربائية وازدحام سيارات المدعوين وسط عمارات سكنية مجبرٌ سكانها علي التكيف مع الطرب المجاور الذي لم يطلبوه.
من يُعطي التصريح؟ ولماذا لا تحتفل بالقاعات المغلقة وتزعج نفسك ومدعويك بدل إزعاج الحي كله؟ من يستطيع أن يعترض على ممارساتٍ تأت بتناقضٍ تام مع ادعاءٍ بالتطور المديني؟ بكل الدنيا لا تُقام المهرجانات وسطَ البيوت؛ إلا هنا. ثم ما قصة توالد المخيمات العشوائية الرثة وانتشار شبابها وفتياتها وصبيان أطفال بعرباتهم البدائية يقطعون الشوارع ويلتقطون نفايات الأسواق والورش وبعضهم يتسول وبعضهم حتى حفاة ثم يعودون بالحصاد ليتجمع حول المخيمات التي تقام بمناطق ليست مؤهلةً و لا نافعةً للمعيشة ولتنتشر النفايات التي يجمعون حولها. و لا تعرف كيف يعيش القاطنين فيها بلا ماء جارٍ وأين يقضون حاجتهم ولا يسأل عن حياتهم أحد كأنهم ليسوا بشراً ولا إن لأطفالهم مدارس. وكأننا في العصور الوسطى وكأنه مُباحٌ أن تنتقي أرضاً كيفما شئت وتقيم عليها ومن بعدي الطوفان. إنه ليس إرثاً حضارياً وإن كان للبعض فينبغي رعايته وتطويره ليتناسب والاحتياج البشري للخدمات والزمان الذي يتطلب بيئةً واحتياجات حياةٍ ستدخل الجيل الخامس من الاتصالات!
إننا نريد الأحسن من الخدمات وقادرون عليها وقد حان وقت تصحيح ممارساتٍ بلديةٍ قبيحة لم يعد ينفع معها غض النظر وسدَّ الأذن وكتم النفس والتقوقع بالمكاتب وراء الزجاج العاكس. نحن نتهاوى. أنقذونا.