يبدو أن الأرض قد بدأت فعلا تضيق ذرعا بالبشر. فأحوال مناخها، بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري التي نحن سببها، تتضارب بجنون، ولعل أوضحها للعيان موجات الحر الشديدة والحرائق الكارثية وحالات الجفاف والفيضانات والأعاصير والعواصف في شرق المعمورة وغربها، حتى أن الأمر بات يشبه دراما قاسية لحرب تشنها الطبيعة ضد الإنسان، الذي عبث بها عبر سنوات. فمنذ أن قامت ثورته الصناعية، ومصائب انبعاثات الكربون التي تخلفها ما تزال تتوالى حتى يومنا هذا.
خذوا ما يحدث في العديد من الدول. في اليابان، تتساقط الأمطار بغزارة في غير موسمها ويرتفع منسوب المياه بطريقة غير مسبوقة، ما يهدد حياة البشر. أما في السودان، فهناك العديد من الولايات التي تواجه أخطار محاصرتها بالسيول، لدرجة أن العاصمة الخرطوم مهددة بالغرق. لننظر كذلك إلى الحرائق مؤخرا في منطقة جبال إشتريلا في البرتغال، أو تلك التي ضربت الجزائر وأدت إلى وفاة العشرات “وتلف ما يزيد على 14 ألف هكتار من الغابات”.
أما ما يحدث في قلب أوروبا وانخفاض منسوب أنهارها فهذا بداية لسيناريو مرعب من الجفاف. تخيلوا أن نهرا كاملا، وهو نهر لوار الذي يمر في فرنسا، التي تعاني من أرقام قياسية على صعيد الجفاف، قد مات بشكل تام مؤخرا! ولنتمعن كذلك فيما يحدث في نهري الراين والدانوب؛ حيث يهدد انخفاض منسوب المياه فيهما، بفعل الجفاف الشديد، إلى تعطل حركة الشحن، خصوصا نقل إمدادات الوقود والحبوب عبر أوروبا وداخل كل دولة كذلك. أما في الصين، “فإن ما يصل إلى 66 نهرا عبر 34 مقاطعة في منطقة تشونغتشينغ الجنوبية الغربية قد جفت”. وكل ذلك بتأثير التغير المناخي المتسارع بجنون في العالم.
هذه أمثلة من باب التأثير المباشر، أما عند الحديث عن الأرقام، فها هو وزير التنمية الوطنية في إندونيسيا، سوهارسو مونوارفا، يصرح بأن بلاده “ملزمة بتقديم تشريعات تحد من آثار التغير المناخي”، وتحديدا في الفترة ما قبل 2024، وإن لم تقم بذلك، “فستعاني إندونيسيا من خسائر اقتصادية تقدر بـ36.6 مليار دولار من آثار التغير المناخي المدمرة”. مثال آخر ما أعلنته “وزارة الطوارئ الصينية بأن ارتفاع درجات الحرارة في شهر تموز (يوليو) وحده قد تسبب في خسائر اقتصادية مباشرة بلغت 400 مليون دولار”، وهذا رقم مهول في شهر واحد. أما إذ أردنا الحديث بتريليونات الدولارات، فقد أصدرت شركة سويس ريإنشورانس، وهي من أكبر شركات إعادة التأمين في العالم، دراسة العام الماضي توقعت فيه “أن يتسبب تأثير التغير المناخي على الزراعة والأمراض والبنية التحتية، إضافة إلى الإنفاق الحكومي وغيره، في خسارة الاقتصاد العالمي 23 تريليون دولار؛ أي 10 في المائة من قيمته، بحلول العام 2050″، وذلك وفقا لشبكة سكاي نيوز الإخبارية.
لنضف إلى كل ذلك أن الأمن الغذائي العالمي، الذي واجه مخاطر كبيرة بسبب عامين من وباء كورونا والحرب الروسية الأوكرانية (ينتج البلدان 30 بالمائة من قمح العالم)، قد تلقى صفعة هذا العام بتزايد التأثيرات الكارثية للتغير المناخي على إنتاج الغذاء، ما يزيد من خطورة مشكلة الجوع في العالم، خصوصا في قارة إفريقيا. لكن المنطقة العربية ليست بمنأى عن ذلك، لا سيما وأن العديد من دولها تعاني نقصا شديدا في موارد المياه.
ومع كل ما تقدم، يبقى الحل لكابوس التغير المناخي بيد البشرية بأن تتوجه إلى مصادر الطاقة الخضراء الصديقة للبيئة، وأن تعمل متحدة للسيطرة على انبعاثات الكربون، عبر حلول عملية للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري والوصول، كما ترى الأمم المتحدة، إلى الحياد الكربوني في العام 2050.
ولتقريب المسألة إلى عقول الجميع، يكفينا أن نتمعن في حقيقة كشفتها دراسة أميركية مؤخرا، ومفادها بأن “العالم يخسر كل دقيقة ما يوازي مساحة 16 ملعبًا لكرة القدم مغطاة بالأشجار”. أليس ذلك مرعبا بما يكفي ليتحرك البشر وبسرعة لينقذوا ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، وفي مقدمة ذلك أرواحهم!
الغد