إن مائة عام في علم السياسة يعني تطوّرَ الدولة والمجتمع إلى النضج السياسي والثقافي والأخلاقي، وأنّ الدولة تجاوزت مرحلتي الطفولة والمراهقة وقطعت شوطًا مهمًّا من النضج. ولكن يحتار المواطن فيما يحدث حوله من مظاهر وظواهر وأحداث! لن أتحدث عن أحوال المواطن الاقتصادية، فقد بات هذا معروفًا، ولن أتحدث عن اختيار القيادات غير القيادية، وتوزيع الأوسمة، أو حتى اختيار اللاعبين في المنتخبات الوطنية، ولا عن هتافات الجمهور الرياضي، هذه كلها بادية للعيان، وربما لم نجد لها حلّا فيما مرّ من سنوات، فلنتفق على فشلنا فيها! ولذلك سأتحدث عن قضايا أكثر بساطة، لعلنا نجد لها حلّا في المئوية الثانية أو الثالثة، ولعل أبرز هذه القضايا السهلة أن نعرض القضايا المحيّرة البسيطة الآتية:
1- الصراع حول قانون يعطي الطفل حقوقًا أساسية جدّا، يقسم المجتمع إلى غالبية "مختطَفَة وأقلية مستنيرة تضطر إلى الحديث في مسلَّمات مثل: حماية الأطفال من انتهاكات أسرية واسعة الانتشار، وكذلك من انتهاكات مدرسية أو بيئية، وقّع الأردن على معاهدة دولية بهذا الخصوص منذ عام ١٩٩٢، ومع ذلك نرفض ما نتج عنها من قانون!
2- وما كنا نجرؤ أن نقوله في المئوية الأولى، فلا نستطيع أن نعلنه في المئوية الثانية، وكذلك ما كنا نلبسه فيها صار حرامًا الآن ومعاقبًا عليه، هذا يشير إلى اتجاهات تقدمنا.
3- وما تمتّعنا به من صبرٍ وطول بال، وتقبّل للحوار طوال مائة عام انتهى، وصرنا نعلن عن نزع أرواح من يخالفنا! فأيّ تقدّمٍ سياسي وثقافي وفكري هذا!، صرنا أكثر حساسية في كل شيء! وصرنا نرى في كل فكرة مؤامرة جديدة على أسرتنا وقيمنا وديننا! كنا في المئوية الأولى تحت رغبة التعلم من الغرب، ونرى فيه تقدمّا وإنتاجًا وفكرًا جديدا! أما في المئوية الثانية فصرنا نشعر بأن عليهم أن يستنيروا بنا ويهتدوا بما ننعم فيه من جهلٍ وظلام.
4- علمنا في المئوية الأولى الفكر والانفتاح والفلسفة والمنطق، وكانت أساسًا في مناهجنا المدرسية، أما في المئوية الثانية، فصرنا نرى في الفلسفة كفرًا وإلحادًا! وأن واجبنا حمايتهم من رجس الفلسفة وزندقة المنطق!
5- في المئوية الأولى كان لدينا مركزًا وطنيّا يدافع عن حقوق الإنسان، والحريات قدر الفرص المتاحة، وفي المئوية الثانية صار المركز الوطني لحقوق الإنسان يرى في حقوق الطفل انحلالًا للقيم والأسرة، ومؤامرة غربية ضد أطفالنا.
6- وللإنصاف أقول: حافظنا على نزقنا السياسي عبر المئويّتين بما هو عابر للمئويّات، عبر الاعتقالات السياسية للكتّاب، فلم نتزحزح عنها، صار الشعب يهدد بنزع الأرواح، والحكومة تهدد باعتقال الأرواح والقلوب والأبدان، مع فارق بسيط: كان الشعب يحمينا من تعسّف الحكومة في المئوية الأولى، صارت الحكومة هي من يحمينا من مختطفي الشعب ممّن هدّدوا بنزع الأرواح!
نعمت حكومة المئوية الثانية، وبئس تهديد أحزابها!!
7- في المئوية الأولى، تحالفت الدولة مع القوى الدينيّة، وفي المئوية الثانية تحوّل هذا التحالف إلى خوف، وصارت الدولة تجاملهم، وتخاف منهم، وتدعم أفكارهم على حساب تقدّم المجتمع.
هذه بعض سلوكات على علماء الاجتماع والتربية، الإجابة عن سؤال:
ماذا تخفي علينا بقية المئوية الثانية؟ ومتى نتخلص ممّا نحن فيه؟ وكيف نحافظ على سلوكات وقيم إيجابية من المئوية الأولى؛ لنضمن عدم إلغاء مدارس البنات ونحرّم عمل المرأة، ونلغي الفلسفة والعلوم من مناهجنا المدرسية، وإلغاء المهرجانات الفنية والمسارح من مناهجنا، وغيرها من حياتنا؟
هل سنلغي حقوق الإنسان برمّتها بذريعة أننا نملك كل ما يسعد الإنسان في تراثنا وعاداتنا!؟
اتجاهات التغيّر المئوية ترعبني!!