ذات مرة كتبت مقالا عن الضجيج في عمان، وأنها لم تعد صالحة للحياة، فأبرق لي رئيس وزراء أسبق برسالة واتس اب يقول فيها معلقا على المقال ما معناه ان مستواك ارفع شأنا من تناول هكذا مواضيع، إذ مالك ومال الضجيج في عمان، ولماذا لا تركز على الملفات السياسية فقط؟.
والرئيس الاسبق، قدس الله سره، معذور، إذ على الأغلب لا يسمع الضجيج، مثل بقية خلق الله، فبيته كله معزول، وزجاج بيته معزول، وربما يسكن في بيت بعيد عن عامة الشعب المقهور.
نتحدث هنا عن جودة الحياة التي تتدنى يوما بعد يوم، ولولا الاضطرار لما اشترى الأردني ذاته شقة في عمان هذه الايام، لكنها بلاده، لا مفر له منها، حتى لو تدنت جودة الحياة فيها.
أعود الى ذات القصة، لعل احدا يسمع، ولن ألومهم إذا لم يسمعوا، اذ ربما ينشغلون في قضايا ثانية، من سعر الحليب في ايطاليا، مرورا بانخفاض منسوب نهر الراين، وصولا الى اسعار القهوة.
تبدأ نهارك في عمان، بأصوات مدارس الباصات الخاصة، التي تجلب الطلبة، وكلما وصلوا الى بيت اطلقوا العنان لأبواقهم مرات، قرب البيت حتى يخرج الاطفال الى الباص، وهذه هي البداية، ثم يأتيك بعده صوت سيارات الغاز التي تتنافس على الحي الواحد، وطوال اليوم، سيارة وراء سيارة، وبينهم سيارات شراء الخردة، أو المواد التالفة من خشب، وأدوات كهربائية، وبعدها تأتيك السيارات التي تنبش حاويات القمامة، بحثا عن قطعة بلاستيك، وسيارة تلو سيارة تنبش ذات الحاوية، وليتهم يعيدونها الى موقعها، بل يركلونها ارضاً، ثم تعود سيارات المدارس لتعيد الاطفال الى بيوتهم، وتطلق العنان لأبواقهم لعل السيدة المصون تخرج لاسترداد اطفالها او ترسل خادمتها الحنون لتتسلم الاطفال من الباصات، فهذا هو زمن الامهات البديلات، والاباء الغائبين.
وكل يوم، تغزوك سيارات بيع الخضار والفواكه، تارة سيارة مع مكبر صوت مزعج، ينادي على كل انواع الخضار والفواكه، وتارة سيارة متخصصة فقط بالبطيخ، وسيارة تجول بالعنب السكري، المسكر عنوة في هذا الحر، وفي مناطق ثانية من عمان، تجول سيارات بيع الادوات المنزلية، او الادوات البلاستيكية، او المواد الكيماوية للتنظيف، ولا يوجد ما يمنع من ان يطرق بابك متسول او متسولة، فقد انتقلوا من الاشارات، الى بوابات البيوت، والمحلات التجارية، والمولات.
ثم جارك العزيز ينشغل طوال الاسبوع وبقية الجيران في اشغالهم، ولا يتذكرون إصلاح شيء خرب في البيت الا يوم الجمعة، يوم تواجدهم، لكنه يوم راحة للبقية، فيطرقون، ويضربون بالمطارق، وكل الادوات الكهربائية، وعند مساء الجمعة، يقصفك اهل الحي بحفلات الخطبة والزواج، ومكبرات الصوت التي تزعج الكل، فتشتم العريس وجده السابع، واصوله الاغريقية.
وفي مرات يواصل الشغيلة العمل في البيوت، وورش البناء ايام الجمعة، وفي العطل، وفي المساء، فلا احد يحاسبهم، ولا احد يمنعهم.
لو كنت خبيرا عقاريا، لحذرت من العيش في عمان، فهذه مدينة مزعجة، تزيد ازمات السير والغلاء والعصبية، من ضنك العيش فيها، والكل ينتظر تدخلا دوليا لتهدئة اعصاب العاصمة.
هذه الظواهر نراها في الزرقاء واربد، ومناطق ثانية، وبسبب ضيق العيش تنتج ظواهر لم تكن معروفة، او كانت محدودة جدا، وليس ادل على ذلك من تحول كل ساحة مسجد الى سوق للخضار والبيض والفواكة بعد صلاة الجمعة، فيبيعون بصوت مرتفع ويصرخون، وتغادر السيارات، وقد تركت خلفها الاوساخ، دون احترام للمسجد، ولا للصلاة التي فرغنا منها.
عاش بعضنا في دول غربية، والكل يعرف ان طرق مسمار واحد في جدار بيتك، ممنوع دون موافقة البلدية، على المبدأ والوقت واليوم، مثلما عاش بعضنا في مدن مزدحمة سبقتنا بهذه “الفوضى الخلاقة” التي تعبر عن سقوط المدن في امتحانات معايير جودة الحياة.
اما الرئيس الاسبق، فأبرق اليه بهذا المقال، مجددا، وأذكره بأن يتفقد زجاجه المعزول، لأن هذه الظواهر سوف تتزايد، وقد يكون بحاجة الى زجاج مصفح بعد قليل يكفيه شر الايام وازعاجاتها.
الغد