فضفضة .. الحلقة الثامنة
اللواء المتقاعد مروان العمد
16-08-2022 12:57 PM
شهد تاريخ البشرية على امتداد عصورها ، صراعات ونزاعات وحروب بين تجمعاتها البشرية ودولها و امبراطورياتها . وشهد احتلال دول لدول اخرى ، وزوال دول وصعود أخرى . واذا لم تحسم هذه الحروب لصالح احد الاطراف ، فكثيرا ما كانت تعقد بينها اتفاقيات صلح تنهي حالة الحرب والنزاع . وكانت شروط وبنود هذه الاتفاقيات تختلف من حالة لاخرى . فاذا كانت قوة الطرفين متعادلة ، تكون بنود هذه الاتفاقيات متوازنة . اما اذا كانت الحرب نصراً حاسماً لاحد الاطراف ، فأن اتفاقية الصلح تكون استسلاماً . اما اذا كان الوضع العسكري متأرجحاً او يميل لاحد الاطراف اكثر ، فان الجانب الاقوى يحصل على اكثر المكاسب ، والجانب الاضعف يسعى لأن يخرج باقل الخسائر . وغالباً ما تتضمن اتفاقيات الصلح خطوات لتطبيع العلاقات بين الاطراف الموقعة عليها من الناحية الرسمية والشعبية .
ويمكن القول ان معاهدة كامب ديفيد ، واتفاقية وادي عربة ، واتفاق اوسلو هي من نوع الاتفاقيات الواردة في المثال الثالث الذي ذكرته . فقد كانت معظم بنودها لصالح إسرائيل ، الا انها وبنفس الوقت حالت دون المزيد من الخسائر للاطراف الاخرى والتي حصلت على بعض المكاسب ايضاً . وكان من بنود هذه الاتفاقيات تحقيق التطبيع الكامل بين اطرافها . الا ان التطبيع اقتصر على الجانب الرسمي والحكومي ، وفي مجال العلاقات السياسية والدبلوماسية والدولية ، دون الشعبي للرفض شبه المطلق لها . في حين لم يتم توقيع اتفاقيات صلح ما بين إسرائيل وكل من سورية ولبنان . علماً ان هذه الدول الخمس هي التي كانت في حالة حرب مع إسرائيل وهي التي كانت على تماس معها ، وهي التي خسرت بعض اراضيها في هذه الحرب .
ورغم ان موقف الدول العربية الاخرى المعلن كان هو العداء لإسرائيل ، ومساند للقضية الفلسطينية والاردن ومصر وسورية ولبنان ، وان بعضها قامت بارسال قواتها لمساندة هذه الدول في حروبها مع إسرائيل ، الا انه لا يمكن اعتبارها انها كانت في حالة حرب معها ، وخاصة لعدم وجود حدود مشتركة بينهم ، وعدم قيام إسرائيل بشن هجمات عسكرية عليها .
بل لقد كانت هناك علاقات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية لبعض هذه الدول معها ، سرية كانت ام علنية . الى ان تولى دونالد ترامب راسة الولايات المتحدة الامريكية والذي استطاع اختراق العديد من الدول العربية وخاصة الخليجية و استنزف اموالهم . ثم بدأت تظهر مصطلحات الاتفاقات الابراهيمية والمعاهدات الابراهيمية وحتى الديانة الابراهيمية . وظهر هذا المصطلح لاول مرة في بيان مشترك بين إسرائيل ودولة الامارات العربية المتحدة بتاريخ 13 / 8 / 2020 تم الاعلان فيه عن تطبيع العلاقات بين الطرفين وبرعاية امريكية . ثم ظهر مرة ثانية بتاريخ 15 / 9 / 2020 في حديقة البيت الابيض ، حيث اقيم حفل توقيع ما سمي اتفاق ابراهام . والتي وقعت عليه دولة الامارات و مملكة البحرين وإسرائيل . وبرعاية الرئيس الامريكي دونالد ترامب وحضوره . وتضمنت الاتفاقية التطبيع الكامل بينهم على المستوى السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والشعبي .
وفي وقت لاحق ضم لهذه الاتفاقية وتحت تأثير اغراءات وضغوطات امريكية كل من المغرب والسودان . واعلن ترامب ونتنياهو ان دولاً عربية اخرى سوف تنضم لهذه الاتفاقية .
وبتاريخ 18 / 3 / 2022 عُقدت قمة النقب بحضور وزراء خارجية امريكا والامارات والبحرين والمغرب ومصر وإسرائيل ، وصدر بيان عنها بتشكيل لجان امنية مشتركة لمواجهة التهديدات الايرانية ، وتشكيل شبكة امنية للانذار المبكر بينهم . وعلى ان تعقد هذه القمة بشكل دوري . وان يتم زيادة عدد الدول المشاركة فيها مستقبلاً .
ولم يشارك للاردن في هذه القمة . حيث اصطحب جلالة الملك يومها وزير الخارجية الاردني الى رام الله للقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس . في نطاق جهود جلالته لتهدئة الاوضاع في القدس الشريف عشية حلول شهر رمضان . وهذا الموقف يحسب لحنكة وذكاء وخبرة جلالة الملك بأن لا يسجل على الاردن مثل هذا الموقف .
هذا وقد نسب اتفاق ابراهام من قبل الاطراف الموقعة عليه الى سيدنا ابراهيم عليه السلام ، والذي يطلق عليه لقب ابو الانبياء والذي يحظى باحترام كبير لدى المسلمين ، فهو لديهم نبي ورسول و والد سيدنا اسماعيل عليه السلام من زوجته هاجر ، والذي ينسب العرب اليه . اما اليهود فانهم ينسبون انفسهم الى سيدنا اسحاق ابن سيدنا ابراهيم من زوجته ساره مع ان ذلك غير صحيح ولم يكن لهم وجود حتى ذلك الوقت .
ثم جاء سيدنا يعقوب ابن اسحاق عليهما السلام واللذي اطلق عليه اسم إسرائيل . ومعنى هذا الاسم في لغتهم عبدالله ، حيث ان مقطع اسر تعني عبد ومقطع ايل يعني الله . وبذلك اصبح يطلق على ال يعقوب بني إسرائيل ، ومنه اشتقت الصهيونية اسم دولة اسرائيل . وكان لسيدنا يعقوب اثنا عشر ولدا ذكراً منهم سيدنا يوسف الذي تأمر عليهم اخوته ووضعوه في الجب . ومن اولاد سيدنا يعقوب يهوذا والذي استقر في مصر بعد ان استدعى سيدنا يوسف والده وزوجة والده وبقية اخوته الى مصر حسب ما ورد في سورة يوسف بعد ان اصبح عزيزها . وقد اطلق على نسل يهوذا ( اليهود ) وهو يعتبر في نظرهم جد الانبياء داود وسليمان وعيسى . والذين تكاثروا وكثرت منهم الفتن وعاداهم فرعون مصر وملئه ، الى ان ارسل الله عليهم سيدنا موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم الخليل . والذي اخرجهم من مصر على نحو ما ورد في القرآن الكريم .
وبهذا تتهاوى الادعاءات اليهودية بأن سيدنا ابراهيم عليه السلام هو ابو الديانات اليهودية والاسلامية والمسيحية وان كان جد الانبياء ( ما كان إبراهيمُ يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ) سورة ال عمران - الآية ٦٧ . ولأن الدين عند الله هو الاسلام ، وان كل الانبياء والرسل الذين انزلهم الله على البشرية هم مسلمين .
وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الايات التي تثبت ذلك ، اورد احداها وهي الآية 136 من سورة البقرة ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )
ان فكرة الابراهيمية التي تسعى الصهيونية السياسية وتعمل على توظيفها ، يراد بها احداث تغيير جذري في المنطقة من خلال تطوير مسار سياسي ديني ابراهيمي يحل محل الديانات الثلاث الاسلام والمسيحية واليهودية ، ودمج الصهيونية في مجتمعنا بشكل رسمي ، ومشاركة الموارد بين شعوب المنطقة بادارة مركزية اسرائلية ، وباستخدام مكانة النبي ابراهيم عليه السلام لدى شعوب المنطقة .
فهل نجحت الصهيونية بدعم من الادارة الامريكية في ذلك ؟ وهل سيحل الدين الابراهيمي المصطنع محل الدين الاسلامي العدو الاكبر بالنسبة لليهود ؟ اعتقد انه وبالرغم من بعض المظاهر الغريبة التي ظهرت من بعض الاعلاميين والناشطين في مجال السو شال ميديا ، وبعض السياسيين والمواطنين في الدول العربية الموقعة على هذه الاتفاقية ، والتي رحبت بها واعتبرت ان إسرائيل دولة شرعية وصاحبة حق في الارض وفي البقاء ، وان الفلسطينيين هم المعتدين والارهابيين . وبالرغم من بعض مظاهر التطبيع واقامة المشاريع المشتركة في هذه الدول ، فأنني اعتقد ان هذه سحابة صيف ستزول ، وان مسؤولي وشعوب هذه الدول سوف يدركون ذات يوم خطر هذه الاتفاقيات الابراهيمية عليهم وعلى بلدانهم ، ولوجود معارضة شعبية لها في هذه الدول . ولان الله ناصر لدينه الاسلام .
الا انه يجب ان نأخذ في الاعتبار قول يائير لابيد بانه سوف يعمل على إحياء اتفاقيات ابراهام وزيادة انتشارها ، وقول بايدن نحن ندعم اتفاقات ابراهام لانها ترسخ وجود إسرائيل ، وبأن تبقى دولة يهودية مستقلة لحماية اليهود في العالم . بالاضافة الى ما وررد في بيان لاحد لوردات عائلة روتشيلد صدر في عام 1890 قال فيه انه نشر الديانة اليهودية في العالم تحت مسمى الديانة التوحيدية الابراهيمية ، هدفه لتسود عقيدة اليهود على الاسلام والمسيحية الكاثوليكية تحديدا . ثم ليتم بناء هيكل سليمان بالقدس وعلى انقاض المسجد الاقصى . وأن هذه المؤامرة سوف تستمر .
فهل سيعي العرب ذلك ؟ اذا كنا قد تجرعنا العلقم بتوقيع معاهدات السلام السابقة بالرغم من ظروفها القاهرة التي بررت انعقادها ، فهل من الضروري ان نتجرع السم الزعاف لنوقع اتفاقيات استسلام وانهزام لا مبرر لها ؟ بل هي بمثابة حكم باعدام ديننا وقوميتنا واوطاننا وانفسنا؟