السحر المجهول في مسارات الشوبك
عبدالرحيم العرجان
14-08-2022 12:43 PM
أودية تأسر الألباب، وتثير شغف التحدي وحب استكشاف المجهول ما بين الشوبك ووادي عربة، حيث معالمها الجيلوجية، نادرة من تجراء وسار بين ثنايا صخورها من شوامخ جبال الشراه.
وادي منشل
بدأ المسار للغرب من بلدة المنصورة بعد أن أقلتنا سيارة دفع رباعي لأهالي المنطقة العاملين على خدمة سياحة المسير والترحال، وصولاً لنهاية الطريق الترابي ومنه إلى نقطة الانطلاق، بعد أن حددنا مسارنا مروراً بثلاثة أودية تحتاج إلى أدوات ومعدات الانزال بالحبال، وكفاءة كافية ومهارات قد تجلت بالقيادة وروح الفريق وإدارة الوقت عماد النجاح والسلامة.
كان مدخل وادي منشل الضيق 1250 متر فوق سطح البحر هو البداية، وبالانزال الأول الشبيه بعنق الزجاجة على الصخور مع مجرى الماء موسميّ الجريان، مجتازين العديد من العوائق الصخرية والجلاميد الملساء التي هذبتها الطبيعة عبر صدع بين طودين عظيمان، الذي تجلى بهم اللون الكرميدي بدرجات لونية مختلقة، وندرة من النباتات إلا ما تعلق في الشقوق من تين بري ونخيل وبعض الحشائش بارتفاعات مختلفة بعيدة عن بطن الوادي، الذي يعتبر شحيح التربة حيث يجري فيها السيل الهادر مع كل فصل شتاء.
فما إن تجتاز بعض المساقط والانزلات حتى يخيم صمت رهيب على المكان فلا يسمع فيه إلا صوت خشخشة أحذيتنا العريضة ذو الكعب، واهتزازات مرابط وحلاقات التعلق كالأجراس أثناء المسير، متناوبين على حمل الحبال والمعدات من موقعٍ إلى آخر دون تباعد، ويد العون والمساعدة بيننا مع كل فج ضيق يتطلب اجتيازه بين صخور قد علقت بين كتفي الجبل وتوجب النزول عنها بشكل عامودي والاستمتاع بهذه الهندسة الفطرية التي قل نظيرها، وغيرها العديد مما مررنا من أسفله بارتفاعات مختلفة بعضها كان بعلو قامة ومنها ما زاد عن الخمسين متر بأحجام مختلفة.
وادي مبارك
وهو الأصعب والأكثر شراسة من سابقه، حيث أفضى إليه بإنزالٍ قد تجاوز الأربعين متر، وقد تجلت فيه الخبرة والحنكة بكيفية التعامل مع كل خطوة فمعظمه كان مقعر بقدر موطىء، وصخورٍ ملساء كالزجاج ندر فيها مواقع نقاط للتشبث مما أطرنا للانزلاق معها عددة أمتار ومنها ما أفضى لبرك راكدة من ماء الشتاء الذي لم يجف لليوم، لعدم وصول أشعة الشمس إليها مع أننا في شهر آب منتصف فصل الصيف.
لندخل بعدها عالم من اللولبيات والانزلات مختلفة الارتفاعات والمقاطع، حيث ليس الارتفاع هو الأصعب بل ما كثر فيه من عوائق أو فوق تجويف عند نقطة الانزال الأولى أو ضيقها المتوجبة أن ترتكز بقدميك بثبات مع الحذر لحركة الحبل واتجاهه خشية الاصطدام بالصخور والإصابة وتتالي البرك مع كل مقطع، أما المياه فقد تجمعت بأحواض دائرية تتعجب كيفية حفر الشلالات لها باستدارة بالغة الدقة كالجرون الكبيرة وقد يعجز عنها أمهر الحرفين، وللبرك والخروج منها أيضا تحدي آخر بالذات بكيفية التعامل مع جدرانها الملساء والمحتاجة ليد العون والتكاتف بين الفريق بين منحنيات في ثنايا الجبل، وما كانت تثيرة أقدامنا وتعكرها بطميها الأسود وبقايا الديدان والعوالق الباحثة عن الرطوبة.
وادي غوير
ومن بركة إلى أخرى وصلنا للشلال الأخير المفضي إلى وادي غوير والإنزال إليه من على صخر زلق نبت به سرخسيات وطحالب بفعل ماء عذب، وقد تعلق حوله شجيرات نخيل ليسمى أيضا باسمه الحديث "وادي النخيل" لكثافة وجوده، لنتمم المرحلة الصعبة بنجاح مجتازين ما يزيد عن عشرين انزال، احتاجت من القائد وفريق الاستكشاف رحلة دراسة سابقة للتأكد من مدى سلامة المسار وقابليته للتطبيق وتحديد نقاط العبور على أكتاف بعض الصخور خشية الوقوع بمصائد إلا عودة واختيار من فيهم القدرة والكفاءة على اتمامه قبل المشاركة بعناية.
وهناك تنفسنا الصعداء مع الغروب وغسلنا ما عُلق بأحذيتنا وملابسنا من أوحال وطمي، وقد قمنا بالاستمتاع بماء الوادي الذي أعاد إلينا الانتعاش وإعداد فنجان قهوة مع نشوة النجاح بسعادة، والتحرر من الخوذ وضغط الأحزمة الحاملة "الهارنس" لتبدأ بعدها المرحلة الاستجمامية للعودة إلى بداية الوادي مع تخيم ظلام الليل والسير بهداية أنوار أضوية الرأس ، بجو سمفونيّ للصوت والصورة لما يشاهد من أطراف المجرة بين قمم الشوامخ مع غياب القمر ونغمات خرير ماء غوير حين كان يغور ويظهر، ليستقبلنا أصدقائنا أصحاب سيارات الدفع الرباعي مهللين بسلامة العودة وماء بارد بعد إتمام ما يقارب من 24 كم خلال أربعة عشرة ساعة بسلام بفارق ما يقارب خمسمائة متر ارتفاع ما بين نقطة البداية والشلال الأخير.