الاستخدام الخاطئ لمفهوم الريعية وسلطة البيروقراطية في الأردن
سامح المحاريق
12-08-2022 12:18 PM
يستخدم كثير من السياسيين في الأردن، وبعضهم أكاديميون، مصطلح الدولة الريعية بصورة خاطئة، فوصف الريعية ينطبق على الكويت والإمارات وقطر، أما الأردن فهي أبعد ما تكون عن ذلك، فلا ثروات طبيعية تعتمد عليها الدولة بوصفها مصدراً للدخل.
أما السبب في الخلط، العفوي أو المتعمد، فهو أن الوظيفة العامة كانت سياسة توزيع الدخل وصيانة المجتمع، لدرجة أن الأردني لم يعد في معظم الأحوال يتصور نفسه إلا موظفاً في جهاز الدولة، سواء في نسخته القديمة، أو الحديثة التي ظهرت مع الهيئات التنظيمية والمؤسسات شبه الحكومية، وبذلك يشبه المواطن الأردني نظيره الخليجي في مسألة الاعتماد على الدولة، ففي حين تقدم الدولة الخليجية منحاً متعددة ودعماً واسعاً لمواطنيها، فإن الأردن بقي يعتمد على التوظيف لتحقيق نفس الغايات، والفرق هو عدم توفر الثروات في الأردن لتمويل سلوكيات الاعتماد على الدولة، والترقب للحصول على حصص من كعكتها، والغضب في حال أخلفت باتفاق الجنتلمان الضمني والقائم منذ عقود من الزمن.
قبل أيام كان أحد المزارعين يتحدث لإذاعة محلية يشكو من التضييق في تصاريح العمل، ويصل به الأمر، وهو يتحدث بلسان آخرين كذلك، إلى التلويح بالتوقف عن الزراعة، نظراً لعدم توفر الأردنيين المستعدين للعمل في الزراعة، ويحاول المذيع أن يناقشه بالحجة القائمة أن الأردنيين كانوا يشتغلون بالزراعة قبل أن يبدأ توافد العمالة الأجنبية في الثمانينيات، وعلى الهامش لم يتمكن المذيع من التواصل مع وزارة العمل، ولو تواصل لبدأنا في نفس الحوار من جديد، المواطن الأردني يعزف عن العمل في الزراعة والبناء، ويعتبر من يعملون في هذه القطاعات في مرتبة اجتماعية متدنية، وتوجد ثقافة مستعارة تضع الأردنيين في موقف سلبي من الصُناع، أي من الطبقة العاملة بشكل عام.
لتجنب القسوة في النقد الاجتماعي، فهذه ثقافة عربية قديمة، ففي بداية القرن العشرين كانت مهن مثل الصحفي نفسها تحظى بنظرة مجتمعية متدنية، فهذا الشرق البائس في تكوينه الاجتماعي لم يخرج من فكرة أصحاب الأطيان والقطعان، ووحدهم كانوا يمثلون المجتمع، وفي لبنان ومصر كانت تتضح الصورة أكثر من غيرها، فغالباً ما كانوا نسل المنتصرين في الحروب والمعارك في أزمنة ما قبل الدولة الحديثة، ومع أن هذه الطائفة من الناس أثبتت في المواقف التاريخية الصعبة مثل الحملة الفرنسية على مصر مدى جبنها وبؤسها لتترك القاهرة لثلاث طوائف أخرى مهمة، التجار وشيوخ الكار ومشايخ الأزهر، أي البرجوزاية المتفاعلة مع الإنتاج والمعرفة، إلا أنها بقيت تتمسك بهيبتها الاجتماعية بمظاهر الثراء القائمة.
ما علاقة ذلك بالأردن؟ الأردن لم يكن يوماً بلداً اقطاعياً بالمفهوم السائد في بقية المنطقة، والمحاولات التي ذهبت لتأسيس وجود اقطاعي مثل إمارات الغور واجهتها العشائر الأردنية وقامت بترويض نزعتها، ولكن الفشل في تكوين ثقافة أردنية صحية ومعبرة كان مؤثراً في استيراد الصور المثلى لشكل المجتمع، وباتت الصورة مؤسفة مع ترك الساحة خالية تماماً، فأصبحت نيتفلكس محركاً لتصورات المجتمع عن نفسه، ويا ليت الأمر توقف عند هوانم جاردن سيتي وأرابيسك.
بدايةً يجب الاعتراف بأن الأردن ليس بلداً ريعياً، ولكنه يمارس الريعية من خلال توزيع المواقع البيروقراطية ومداورتها، بحيث أصبح الشعب في تفكيره بيروقراطياً تحكمه الأضابير والمعاملات والأوراق، تعشش في عقله، ولذلك يأتي قانون الاستثمار غامضاً، فالموظفون ينقضون على عقل من يكتب القانون، يحاول أن يسترضيهم وأن يتجنب إغضابهم، ولذلك يخرج القانون غامضاً ولا يفهمه المستثمرون كما قال رئيس جمعية المستثمرين العراقيين.
محاولة استقطاب المستثمرين يعرقلها الاضطرار إلى تحميلهم بمزيد من الحمولة البيروقراطية في الأردن، وكأن ذلك أحد تجليات الشراكة بين القطاعين، وبينما يبحث المستثمر عن عمالة نجد كثيراً من المشروعات يستورد عمالته معه ليستفيد من اتفاقيات عقدتها الدولة الأردنية وكان الأولى أن توضع في خدمة الأردنيين من خلال معادلة معقولة بين تكلفة الإنتاج وحماية العامل الأردني.
بنيت الصناعة في ألمانيا على أكتاف عمال المناجم الذين كانوا يستخرجون الفحم في حوض الرور والتي أغلقت مناجمها لأسباب بيئية، وبقيت بعد ذلك مصدراً للاعتزاز الوطني في ألمانيا، وجزءً من التاريخ ربما يضطر الألمان إلى العودة للتعامل معه في حال تطاولت الحرب في أوكرانيا، فهل يمكن للأردنيين أن يعودوا من جديد إلى الزراعة؟
الإشكالية متعلقة بمرونة المجتمع نفسه، وقدرته على التحول من حال إلى أخرى، التأقلم والتفاعل مع التطورات والمستجدات، وفي مجتمعات الموظفين هذه مسألة صعبة، ومن ليس موظفاً، فنموذجه الحياتي الأمثل هو الوظيفة، وتفكيك مجتمع الموظفين الذين يبحثون عن بقائهم من خلال إضفاء لمسة مقدسة على ضرورة الإجراءات والالتزام الحرفي والنصي، يصعب أن يمتلكوا المرونة.
يفكر الأشقاء في الخليج في عالم ما بعد النفط والذي سينهي الدولة الريعية هناك، فهل يتخيل الأردنيون مجتمعاً خارج الوظيفة أو السعي للوظيفة؟ هل يتصورون وجوده؟