أستميحُ العُذْرَ من الإذاعي الراحل الأستاذ حسن الكرمي الذي كان و يبقى يُذْهِلُنا و يُمَتِّعُنا بِقْدرِ ما يُعَلَّمنا من روائعِ الشعر الفصيح. و لمن يريدُ التزود فكتابه بأجزائه الثلاث عشر الذي جمع فيه حلقاته الإذاعية "قولٌ على قولْ" و التي كانت تأتينا من خلال القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية من لندن هو في المكتبات. ليعذرني الأستاذ حسن الكرمي عندما أستخدم عبارتهُ المشهورة و اسم برنامجه و كتابه لأصِفَ بها رَدّّ العرب وغيرهم على حربِ الصهاينة على غزةَ هاشم والأقصى المبارك.
ذلك أنه عندما تتكسَّرُ نِصالَ "إسرائيل" على نِصالِها قتلاً للفلسطينيين الغزِّيين مُقاومين كانوا أم مدنيين وهم في غزة في ثلاثة أيام ٤٤ شهيداً و ٣٦٠ جريحاً و تنطلقُ لاقتحام الأقصى أوغادُهم و شِرارُهم و شُذَّاذُهمْ الآتين من روسيا و أمريكا و أوروبا و إفريقيا و عندما يقابلهم الردُّ الغَزِّيُّ الجِنيني المقدسي بما يقدرُ عليهِ المقاومُ أمامَ خِطَطٍ مُحكمةٍ من "إسرائيل" لحمايةِ اليهود سواء المجاورين منهم أو البعيدين، و كلهم من المحتلين لفلسطين، و يقابل هذا القتل الإسرائيلي، إلى جانب صواريخ المقاومين، الأحرف العربية المجردة من الفعل فإن هذا مدعاةٌ للرعب من القادم. فالملاجئُ و صافراتُ الإنذار وترتيبات الإخلاء و القبب الحديدية و الحواجز و المناطيد المصوِّرة تجعلُ من الرد الفلسطيني غيرَ مُجْدٍ للحد الذي يشفي الغليل أو يعوضُ عن فقدان هذا العدد الهائل من الشهداء و الجرحى، و لكنه فعلاً الرد الوحيد الأجدى في هذا الظرف البائس رغم قِلَّةِ تأثيره. غير أن الأحرف العربية التي نسمعها ردودا على "إسرائيل" تغرس في الروح العربية الحية بمقتلٍ من الخِزيِّ من العروبة. قد يفرضُ الردُ الفلسطيني بعض الخسارةِ المادية لدى الصهاينة و توقفاً للحياةِ الاعتيادية للمحتلين لكن هذا جزءٌ محسوبٌ من كلفةِ الحرب و ستتكفل الجماعات اليهودية بأرجاء العالم والحكومات الحليفة بالتعويض عنه. لن يُضيرهم بضعة جرْحى أو نوبات الهلع والصراخ التي تتكلمُ عنها قنواتهم و قنواتنا فهذا أيضاً ملعوبٌ محسوبٌ سيَظْهَرُ عند حلفاءِ "إسرائيل" شَفَقَةً عليهم من هذا الفلسطيني الأهوج الإرهابي الذي يرميهم بالصواريخ. و ستعودُ الشفَقَةُ أضعافاً مُضاعفةً من التسهيلات و المعونات التي ستصلُ لليهودِ المُحتلين وجيشهم. فماذا يفعل العرب؟ الكلمات المتكررة هي الرد خلال الحرب وبعدها مع بعض المساعدات التي ستستجدي موافقة "إسرائيل" قبل عبورها.
و مُغَفَلٌّ من يعتقدُ أن المسجد الأقصى سيبقى واقفاً و صامداً وقتاً طويلاً. مخطط الهيكل موجود و الممولون له مستعدون للبناء و المُصَلُّون من اليهود يزحفون على باحات الأقصى في عمليةِ فرضِ الأمر الواقع غير عابئين بأحد. فماذا يستطيع أن يفعل حرسُ الأقصى والمرابطون فيه وأهل القدس أمامَ هذا الزحفَ اليومي المدعوم، حمايةً و رغبةً وعقيدةً أنه لهم، من الجيش اليهودي و سياسييه و من وراء البحار؟ و ماذا ستفعل الصور و الأفلام التي تنقل الحدث من غزة و القدس و جنين سوى تأجيج المشاعر لمن يتابع و لا يملك من الفعل شيئاً؟ لأن هناك الكثير الكثير من العرب الذين لا يهتمون و لا يتابعون أحداث فلسطين. اليوم في العالمٍ هناك دولٌ تعرفُ كيف ترد على المعتدي. هل لا يعرف العربُ كيف يردُّون بغيرِ الكلام الموزون؟ أم هم لا يريدون أم لا يستطيعون؟ بلى، يعرفون و يستطيعون و لا يريدون.
اسمعوا رد العرب، والمجتمع الدولي، على قصف غزة. القلق الشديد على الوضع الإنساني في الأراضي الفلسطينية هو ما صرحت به منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي المحتلة. ليس بمقدورها أن تفعلَ أكثر. أعلمُ تماماً أنه أضعف الإيمان. و شكراً لها على كل حال. أما المسؤولون العرب فيتكلمون عن غضبٍ شديدٍ و قلقٍ أشد و مناشدةً للمجتمع الدولي أن يتحرك. و ينشرون إداناتٍ متواترةٍ من الناطقين الرسميين ويسمحون بمسيرةٍ هنا و مقالةٍ هناك تشجب وتندد و تنعى وتطالب. هذا بجوارِ اتصالاتٍ لوقف العدوان ولإيجاد صيغةٍ لحقن الدم. و بالطبع عقد جلسةٍ لمجلس الأمن. إنها أقوالٌ على أقوالٍ لا تَصُدُّ سهماً و لا تُسقِطُ طائرةً و لا تخرقُ ثُقباً بالقبة الحديدية أو حتى تعكر مزاج جنرالٍ صهيوني. عربياً ليس هناك مَنْ يقطع العلاقات و التعاون مع "إسرائيل". لم تَجْرِ هذه الكلمة على لسان عربي، و لا رُدَّت "العال" و مُنِعَتْ من سموات العرب. ولا توقف الدفقُ الفاجر من السياح الصهاينة لارتياد شواطئ و فنادق وملاهي العرب التي يخدمهم فيها عرب. إن دمُ الغَزِّيين وبالطبع دم كل الفلسطينيين و العرب حلالٌ عندما يسفكهُ الصهيوني، و دمُ الأقصى لمن يريدُ أن يعلم سَيَحِلُّ قريباً و سيُسفكْ. فيما دمُ الصهيوني لا يقدر بثمن و لا كذلك رفات موتاهم و لا لفافات توراتهم و لا نقشةٌ عبرانيةٍ في صخرةٍ في وادٍ سحيقٍ سيقولون أنها أرضهم.
تجري "إسرائيل" جريَ الوحوش، كما يقول المثل، لتعظيم مكاسبها التطبيعية و هي ضمنتْ ليس فقط صمتَ العرب و لكن ربما تعاطفهم. الجهاد الإسلامي مُصنفةٌ حركةً إرهابية و زعيمها كان يزور طهران خلال العدوان و هما سببين كافيين لِغضِّ النظر. كما أن الشهيةَ لحربٍ لم تراود زملاء الجهاد في غزة. إنها قصةُ الثيران الأبيض و الأسودَ و الأحمر. وكم مِنْ مناورةٍ قامتْ بها "إسرائيل" مع حلفائها، و يُقالُ بمشاركة بعض العرب، في الشهور الماضية؟ في البحرين الأبيض المتوسط و الأحمر و في اليونان و قبرص. هذا ما نعرفهُ لأنه مُعلن. الإعلامُ المتخصص يتكلم عن مشاركةٍ عربيةٍ عسكرية و أمنية مع الإسرائيليين و تنسيقاً عميقاً و حثيثاً. فهل لنا أن نتوقع من العرب المنغمسين بكاملِ وعيهم في بناء العلاقات السياسية والعسكرية والأمنية مع "إسرائيل"، و توطيد العلاقات التجارية والسياحية والدينية، أن ينتفضوا و ينفضوا هذه العلاقة من أساسها كرامةً للقدس أو لجنين أو لغزة؟ طيب إذا كانت السلطة الفلسطينية ذاتها لن تفعل ذلك، رغم تهديداتها المتكررة، فلماذا تتوقع تصرفاً مغايراً من العرب؟ أعودُ للمناورات. إنها تشحذُ السكاكين الحادة لتصبحَ أكثرَ فتكاً "فإسرائيل" كيانٌ دمويٌّ لا يمكن أن يعيش إلا إن ذبحَ عدوه و امتص دمه و هو يُطَوِّرُ شبقهُ للقتل كل يوم. في هذه الأيام تنكشفُ مذابح الجنود المصريين في سيناء. و لا تزال روابي فلسطين تحتضن جنود الأردن الذين قتلهم الإسرائيليون و تنتشر أعجازُ مئات الفلسطينيين الذين ذبحتهم "إسرائيل" تحت التراب الفلسطيني. نُذَكِّرُكْمْ بمذابح بحر البقر و قانا و القنيطرة لمن لا يتذكر. اليوم الوثائقُ البريطانية تكشفُ، وكأننا لم نكن نعرف، عن التواطؤ البريطاني مع العصابات اليهودية و تدريبها وتسليحها و تشجيعها و السكوت عن جرائمها. لا فرقَ بين التواطؤ البريطاني في القرن الماضي و مناورات اليوم متعددة الجنسيات التي تفتح للمجرم الإسرائيلي بواباتٍ إضافية من المعرفة و التمرين لقتل العرب. و ضرب غزة مناورةً مستمرةٌ و كذلك قصف سوريا كلما عَنَّ على بال "إسرائيل" و هذا مقالٌ للقادمِ في الفكر اليهودي القاتل للعرب. ولستُ أعني باليهودي الديانة و من يدين بها ممن لا يؤمنون بالعنصرية الصهيونية و لكني أعني عموم اليهود الذين تقمصوا الصهيونية و ارتدوها دِثاراً و منطقاً و فكراً و قولاً و فعلاً إجرامياً أخرج منهم أسوأ الخصال البشرية في التمييز ضد البشر من العرب و تعمد إذلالهم و استعبادهم و استضعافهم و إيلامهم نفسياً و جسدياً و قتلهم و زجهم في ثلاجاتٍ ممنوعين من الدفن أو مدفونين كأرقامٍ. فهل تعرف العربُ هذا؟
الواقع العربي الرسمي و حتى الشعبي لا يعدو كونه شعراً و نثراً أمام هذه العنصرية الفاعلة. بل أنهُ بيعٌ للوهم. نحن نقول و هم يفعلون. قولنا مهزأةٌ و وهمٌ بانتصارٍ و كسرِ هيبة العدو كما يقولون وقولهم مقتلةٌ تصطادُ القائد و الطفل الرضيع. قولنا مهزأةٌ لأن دولنا تسمح للمصالح الإسرائيلية أن تتشابك مع مصالحنا و بشكلٍ لا يمكننا العيش من غيرها. و من يشذ يجد نفسه و عشيره ووطنه تحت وطأةٍ من السياسات المضادة التي تُخرِجُهُ أو تكاد من دائرة الوجود. و لهذا يجنحُ العرب للسلم مستأنسين بالحاجةِ للمصلحة المشتركة مع الإسرائيليين، للبقاء. و إن اعترضوا على الآلة الشريرة الإسرائيلية فهو اعتراض المُحْرَجْ لكن المتهافت على بقاءِ أمانيهِ ببقاء المصالح و لو سال الدم العربي و انهدَّ الأقصى على من فيه. فهذا حالُ عرب المصالح. و حركاتُ المصالح كذلك الشأن. إن البعض يتمنى فعلاً لو اختفى الفلسطينيين و الأقصى لأن في زوالهم الراحةَ الأبدية للجميع. أما عربُ 'الاستقلالية خارج المصالح' مع "إسرائيل"، إيماناً أم مناورةً، فلا يعدو اعتراضهم إلا اعتراضَ العاجز. ففي النتيجة كلنا، عرباً متصالحين وغير متصالحين للآن ، صفحةٌ في القول لا تغني و لا تسمن من جوع. بل أنها صفحةٌ مُمِلةٌ على عكس صفحات "قولٌ على قول".
مع كل احترامي واعتزازي بالمقاومة و المقاومين و محاولاتهم استجراح المعجزة التي قد تُيقظ العرب لكن القول العربي أن الكثرة غلبت الشجاعة هو حال اليوم. إنها كثرةٌ "إسرائيليةُ" الهوى في العالم، وعند العرب المصلحيين و غيرهم، و لديها القوة مقابل مقاومةٍ تستبسل بجهودها الذاتية لكنها لا تستطيعُ تغيير هذا الواقع العالمي و العربي لوحدها. إنها مقاومةٌ تنظر و تنتظر العرب فلا يأتون. حتى أقربَ أقربيها نكصوا فكيف لها أن تنتصر؟ أن تثأر؟ أن تحرر؟ لن يمكنها ذلك. عدوها ليس فقط هذه المصلحة العربية الإسرائيلية المتشعبة و لكنها أيضاً ثقافة العرب التطورة و المتماهية مع قشور التعولم. إنها ثقافةَ الترفيه التي حلَّتْ مكان ثقافةَ التحرير. ما بين شعوبٍ عربيةٍ كادحةٍ في سبيل لقمة الخبز و مجتمعاتٌ عربية نخبويةٌ مصلحيةٌ تبحث عن الرفاه، حتى بين الفلسطينيين و هم في فم التنين، و إلى أن ينسلخ العرب من هكذا ثقافة و واقعٍ يستحقُ الازدراء فنحن لسنا إلا قولٌ تائهٌ في عالمٍ لا يحترمُ إلا ذوي القولِ و القوة، و لسنا منهم. إلا استثناءً لا يكفي.