لا يبدو حال القاعدة أفضل من داعش، فكلا التنظيمين يعانيان، منذ أعوام، من أزمات داخلية وبنيوية كبيرة، مكّنت الأجهزة الأمنية من اصطياد القيادات البارزة وقتل أغلب الصفوف الأولى، كما حدث مع قائد القاعدة، أيمن الظواهري، الذي أعجز جهاز المخابرات الأميركية عقدين من المطاردة، ودفع الجهاز ثمناً لها (فضلاً عن ملايين الدولارات المصروفة على عمليات التجسّس) ثمانية من القيادات البارزة عندما خدعهم الظواهري، ونصب لهم فخّاً تاريخياً (في عام 2011) من خلال الطبيب الأردني همام البلوي (أبو دجانة الخراساني).
بالرغم من ذلك كلّه، هل يمكن القفز إلى نتيجة أو فرضية القول إنّ الجهادية (سواء داعش أو القاعدة) تتجه نحو الأفول والتراجع، في ظل المؤشّرات العديدة من تفكك وصراع ومقتل القيادات؟ يمكن تجنّب السؤال مباشرةً، والنظر إلى أشخاص مثل أسامة بن لادن والظواهري وأبي مصعب الزرقاوي وأبي بكر البغدادي، وإعادة قراءة المسار الذي انتهى بهم إلى أن أصبحوا رجالاً خطيرين على الأمن العالمي، بل وعملوا على التأثير في بنية النظام العالمي نفسه وتفاعلاته، سواء منذ عملية "عولمة الجهاد" (بالمناسبة، يعتبر الظواهري المنظّر الرئيس لهذا التحول في مسار الجهادية من الصراعات المحلية إلى العالمية)، أو بروز طفرة "داعش" وما أحدثه التنظيم من هلع في كل مكان في العالم نتيجة التكتيكات العنيفة والدموية غير المسبوقة والسرعة الفائقة في التجنيد.
لو كانت هنالك بنية ديمقراطية تعدّدية في دول العالم العربي تسمح لجيل الشباب في المشاركة والاشتباك السلمي السياسي، والمشاركة في عملية صنع القرار ومساءلة الحكّام والحكومات عن الإخفاق، ووصلت الشعوب إلى مرحلة تدرك من خلالها كيف تصنع السياسات واقعياً، وتنتخب من يمثّلها، ولو كانت السياسات الأميركية غير غارقة حتى أخمص قدميها في دعم الدكتاتوريات العربية والكيان الإسرائيلي على حساب حقوق الشعوب، ولو كان الإعلام حرّاً وسلطة قادرة على الرقابة والمساءلة والتعبير عن الناس، وكانت أجهزة الأمن بعيدة عن السياسة، ولا تلاحق الناس على أرائهم ومواقفهم السياسية ولا تمارس التعذيب والقمع، لو كانت هذه الظروف مختلفة في العالم العربي ربما، بل على الأغلب، إنّ القيادات المتطرّفة السابقة كانت في مساحات أخرى، لربما كان الظواهري طبيباً في حيّ شعبي، أو نائباً في مجلس الشعب المصري، وابن لادن مثل عائلته رجل أعمال مشهوراً، والبغدادي خطيب مسجد في العراق، والزرقاوي في أفضل الحالات رئيساً لبلدية الزرقاء في الأردن أو موظفاً بسيطاً في الحكومة!
ذلك على مستوى القيادات؛ ماذا عن الشباب المنخرطين في هذه الجماعات والمجموعات المتشدّدة؟ من يقرأ ملفاتهم الشخصية ويتابع مساراتهم يجد أنّ قصص كثيرين منهم طبيعية ولا تلفت الانتباه، ولا يوجد معيار حقيقي واحد يمكن القول بأنّه يشكل مفتاحاً أو كلمة سرّ لماذا يصبح "س" جهادياً ولا يصبح "ص" مثلاً؟
هل هي رفقة المسجد؟ في أحيان عديدة صحيح، لكن ذلك جزئي؟ هل هي مناهج الشريعة في الجامعات؟ النسبة الكبرى (كما تظهر في دراسات عديدة؛ وجديدها كتاب أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، لكاتب هذه السطور برفقة زيد عيادات، عن الجهاديين الأردنيين بعد انهيار دولة داعش) من طلبة الدراسات العلمية، بخاصة تخصّص الهندسة مثلاً! هل هم من العاطلين من العمل ومحدودي التعليم؟ العكس تماماً (كما يشير كتابنا)، فالنسبة الكبرى إما من طلاب الجامعات أو من أنهوا التعليم الجامعي، وأغلبهم يعملون، وبعضهم من الطبقة الوسطى (وإن كانت الغالبية من الطبقة الوسطى المتديّنة).
إذاً أين يمكن أن نجد التفسير الأكبر؟! الجواب هو في الظروف والسياقات والشروط السياسية في العالم العربي، هي في السلطوية والاستبداد والتعذيب والشعور بغياب العدالة وبانعدام قيم المواطنة الحقيقية، وفي السياسات الغربية المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي والسياسات الطائفية وغياب الديمقراطية.
ما دامت هذه الشروط متوافرة اليوم؛ فليس من الصعوبة أن نتوقع، على النقيض مما سبق، أن هذا الفكر الراديكالي سيبقى قوياً وفاعلاً، وما أدّى إلى صناعة مثل أولئك القادة يمكن، منطقياً، أن يؤدّي إلى تصعيد آخرين!
"العربي الجديد"