يصرف الناس أموالهم على أمور كثيرة، ضرورية وكمالية، وقد يغدق أحدهم بسخاء على أمر غير ضروري أو ثانوي في الحياة، التي تستمر معه أو بدونه، وإنما يفعل ذلك لأنه لا يعرف أين يذهب بالوفير من ماله، كما قد يدفع أحدهم الملايين مثلا في سبيل العودة إلى مجلس النواب، أي وصولا إلى المنزلة بين الناس، فإذا حدثته عن حق يؤديه لوالديه أو ليتيم أو لصلة رحم أو لطالب علم، تثاقل، وأصبح يشكو أنه استنزف من كثرة المتطلبات والالتزامات، وأنه ما عاد يقدر على أداء الكثير منها، وأنه يمر بضائقة مثل غيره من الناس، حتى ليوصلك للظن أنه هو أيضا فقير ويحتاج إلى من يحسن إليه!.
ولقد شاهدت أثناء عملي في عمادة شؤون الطلبة سابقا، من أصحاب الملايين من يطلب مساعدة لقريب له أو لأحد محارمه من صندوق الطلبة الفقراء، بل ويصل بهم الأمر إلى حد طلب مساعدة عاجلة، وهي ذلك النوع من المساعدات الذي يمنح للطلبة الفقراء جدا والذين لا يستطيع ذووهم تأمين أبسط احتياجاتهم. ولو حدّثت الناس بهذه المواقف لحدثوك بما هو أعجب من ذلك.
وفي المقابل تجد من الناس من لا يتثاقل من السعي نحو الإحسان وإن كان نزرا قليلا، ويشعر دائما حتى وإن كان يملك القليل، أنه يملك، وأن بإمكانه أن يقدم مساعدة لغيره، وقد يفعل ذلك وهو يفتقد في حياته لكثير من الأمور، ولكنه يأمل أن تأتي الأيام بما يمكنه من تحقيقها، فيشارك الآخرين همومهم ومشاكلهم ويقتسم العيش معهم،ويعلم أن متطلبات الحياة لن تنتهي في يوم، وأن الإنسان إذا حقق أمرا استجد غيره، ومهما حقق في حياته، سيبقى يطلب المزيد... فإذا فكرت بهؤلاء الذين يفكرون بغيرهم حين ينفقون، لا يدور في خلدك سوى أنهم من أغنى الناس وأجملهم، وأولئك الذين يملكون ويبخلون, من أشدهم فقرا وقبحا.
الافتقار إلى الإحساس بمعاناة من حولنا من أقارب ومعارف وأصدقاء وطلبة، هو افتقار إلى الإحساس بالحياة نفسها، وجهل بشروطها، ويحيل إلى النظرة السطحية في فهمها، وهو استشراء لصفات وقيم كثيرا ما تصنّف بالأنانية، ولكن الحقيقة أنها تصب في صميم المعرفة والثقافة، فلقد استهجن الناس في الأمم التي خلت قبلنا أن يطعموا من لو شاء الله أطعمه على حسب تعبيرهم وكأنّ الكون يجري على هواهم، أو كأن الله خصّهم بالرزق الوفير تمييزا لهم عن غيرهم، وليس اختبارا لهم. وكان هذا إيذانا بزوال نعمهم، لإفهامهم، والحد من طغيانهم.
لقد حذر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحد الولاة أن يستعمل على الناس ثلاثة : البخيل والجبان والحريص، وبرر ذلك بأن أصحاب هذه الصفات الثلاثة يمنعون عن الناس الخير، لأن لديهم سوء ظن بالله، الذي يحفظ الحياة، ويهب الرزق، ويجري القضاء، ويدبر أمور الناس، ولا تسقط ريشة تطير من جناح طائر يطير في السماء على رأي شكسبير إلا بإذنه تعالى. ولهذا كان الكاتب الكبير (كما كان يردد دائما) لا يتطير ولا ييأس ولا يتشاءم أبدا.
غير أنّ هناك ممارسات اجتماعية بين البذخ والمنع يقف أمامها المرء حيرانا! ونحن الآن على أعتاب وأبواب عام دراسي جديد، في المدارس والجامعات في ظل ظروف اقتصادية صعبة على كثيرين، وقد نجا منها غيرهم، لهذا أرجو الله أن لا يتثاقل الأغنياء إذا دعوا إلى الإحسان، وأن يبادروا بأنفسهم إلى دعم صناديق الطلبة الفقراء، إذ بإمكانهم أن يحددوا عدد المنح التي يرغبون بإعطائها وقيمة كل منحة، كما بإمكانهم تحديد أسماء الطلبة الذين يرغبون بمساعدتهم، والتخصصات التي يرغبون بدعمها، مع إمكانية متابعة وصول المال إلى الفئة التي تستحقه. فلم ينقص يوما مال من صدقة، وإنما كان دائما ينمو ويزيد.
reemmr24@yahoo.com
الرأي