أزمة التمثيل السياسي في الأردن
سامح المحاريق
05-08-2022 01:02 PM
أثناء عمله السياسي في الهند، كان الأب المؤسس لدولة باكستان، محمد علي جناح، يرى أن حق التصويت في الانتخابات يجب أن يبقى مقتصراً على المتعلمين الذين يدفعون الضرائب، وفي الوقت نفسه، كان جناح ينادي بمجانية وإلزامية التعليم، وبالتنمية الاقتصادية، ومع ذلك لطالما نظرت إلى رؤيته على أساس أنها غير عادلة، وأنها ستولد مشكلة ستجعل طبقات اجتماعية معينة تستطيع أن توجه الدولة لخدمة مصالحها حصراً.
ما زالت الهند الديمقراطية الأكبر في العالم تعتبر نموذجاً سيئاً للديمقراطية، فالفقراء ينتخبون من يستطيع أن يوفر لهم بعض الخدمات البسيطة التي هي من واجب الدولة، ولكنهم يضطرون للتحصل عليها من الإقطاعي أو صاحب المصنع الذي يعتبر عضواً مؤثراً في الحزب س أو ص، أي أن مدخل جناح والواقع كلاهما لم يتمكن من تحقيق شيء ملموس في الهند، وقبل أن يجادل أحد بالنمو الاقتصادي المتحقق هناك، ففي الحقيقة كل النمو لا يساوي شيئاً إن لم يكن عادلاً، ولم يستفد منه الجميع، فما الذي يعني وجود مزيد من المليارديرات في الهند وبقاء مئات الملايين يعانون من أجل الحصول على المياه النظيفة؟ لا شيء.
هذه الأفكار أخذت تراوح في رأسي ونحن نتحدث عن الإصلاح السياسي في الأردن، فخلال الأشهر الماضية تشكلت ثلاث لجان، الأولى تولت الجانب السياسي وكانت لجنة واسعة ضمت ألوان الطيف السياسي المختلفة، والأخرى ورش العمل الاقتصادي، وضمت المئات من ممثلي القطاعات، والأخيرة، كانت تجاه إصلاح القطاع العام، وضمت مجموعة محدودة من الخبراء بحكم مواقعهم الوظيفية، وجميع هذه اللجان واجهت الكثير من النقد والتشكيك.
نتفق أو نختلف مع اللجان ومخرجاتها هذه مسألة هامشية، والمسألة الجوهرية بالنسبة لكثيرين كانت تشكيل اللجان نفسه، ومن وجدوا أنفسهم خارج اللجان من ناحية المبدأ، كانوا الأكثر تطرفاً في الهجوم عليها، وبالنظر إلى مجمل حالة المشهد السياسي فإن أزمة التمثيل في الأردن تبقى حاضرة من الحكومة إلى مجلس النواب، وعلى أساس الشعور بإشكالية التمثيل، تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بسلوكها المتربص.
مع حضور الملك المؤسس إلى الأردن لم تكن مشكلة التمثيل معقدة، فقبل تأسيس الإمارة وجدت بعض الأجهزة الإدارية التي أعيدت صياغتها، وتوافرت زعامات محلية جرت معها أو مع معظم ممثليها، التفاهمات التعاقدية لتأسيس الدولة الجديدة، وكان المتحصلون على التعليم نخبة محدودة في الأردن، لدرجة وجود الحاجة للترحيب ببعض الإداريين والبيروقراطيين من المحيط العربي الأوسع مثل الركابي وطليع وغيرهم.
معظم القيادات السياسية والإدارية الأردنية خرجت من سلك التعليم أو من المتعلمين الذين ابتعثوا أو أرسلتهم أسرهم الثرية للدراسة في دمشق والقاهرة، وأخذت كل عشيرة وجهة تمنح شرعية مباشرة للممثلين الجدد، لأنهم يمتلكون القدرة على خدمتهم لتوفر الفرص في عملية تأسيس دولة كاملة، ولأنهم لم يتحصلوا على مزايا كثيرة، ربما بيوت أفضل، وسيارة متواضعة، وكانت خلفيتهم التعليمية تجعلهم يمتلكون هيبة اجتماعية تخلق حولهم حالة من الالتفاف.
لم يكن الأردن بلداً ذا كثافة سكانية، السكان يتركزون في حوران وجبال عجلون والبلقاء والكرك، ومع إضافة معان والعقبة للإمارة، أصبحت الأردن بلداً متواضعاً سكانياً قياساً بمساحته، أي أنه أصبح بلداً خليجياً من حيث المواصفات السكانية، أو اليمن الذي في الشمال، ففي الأردن توفرت القيادة بمرجعية دينية ومجتمع عشائري بشقيه الفلاحي والبدوي، فما الذي جعل الأردن مختلفاً عن اليمن؟ وعن الخليج، وعن الشام، وعن أي نموذج آخر في المنطقة العربية؟
الإجابة المنطقية هي الأحزاب القومية والأممية التي دخلت الأردن في مواجهة مع شاب ذكي أصبح ملكاً صاحب سمعة عالمية، واستطاع أن يحقق المعادلة الصعبة، فهو يتحدث باللهجة البدوية ويرتدي شماغه الأخمر ويعرف كيف ومتى يلصمه، وبعد ساعات، يكون في لندن يتحدث بإنجليزية سليمة ويرتدي بدلة أنيقة ويفهم النكات الباردة، وكانت المعادلة المبطنة، لن أسمح لكم بالتحول إلى نموذج غائم يحكمه من يسبق الآخرين إلى الإذاعة ليعلن البيان الأول، ولن أتحول بالأردن إلى حكم مطلق على النمط القبلي، وكانت هذه معادلة مرهقة ومع ذلك مقبولة بآثارها الاجتماعية والتكوينية، فعاكف الفايز يقود مجلس النواب الأردني وابن عمه، حاكم عضو في القيادة القومية لحزب البعث في سوريا، وعلى ذلك يمكن القياس والتفسير.
غرائب الحالة الأردنية لم تتوقف عند السياسة، ففي الأردن كان القطاع الخاص مثل أسرة بدير يؤسس لقطاعات حيوية ومنها الكهرباء، وفي الوقت نفسه توجد نزعة اقتصاد موجه مع الخطط الخمسية والتوسع في المنشآت التعليمية والصحية والخدمية، ومع وجود الانفتاح وتداخل السياسي بالاقتصادي بدأت مشكلة منفردة بالتعمق، ففي الأردن توجد حالات احتكارية تتوازى مع بيئة طاردة للاستثمار.
كل هذه البيئة تحتاج إلى إصلاح عميق، ولكن كيف فهذه المعادلات تأسيسية في الأردن وعميقة؟ ومن يمكنه أن يخمن تكلفة تفكيكها؟
الممثلون الجدد وحدهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك من خلال حياة حزبية تتولى هي عملية الفرز والترقية، وتناضل من أجل التبشير والترويج لأفكارها، ومع ذلك، توالدت أيضاً، فكرة وجود من يطمحون لدخول اللعبة أو المحافظة على مواقعهم، شخصيات سياسية تمتلك المال أو تملك تواصلاً مع مصادره، فالأحزاب ليست مجانية وما تقدمه الدولة من دعم لا يمكن أن يغطي مصاريف أساسية للحزب.
كيف يمكن الوصول إلى التمثيل، وأصلاً فكرة التمثيل العادل تعرضت لحروب كثيرة ولحالات إفشال متعددة، فلا المجتمع يمتلك الأدوات اللازمة لخلق هؤلاء الممثلين، ولا يمكن أن تنجو شخصيات يتم توظيفها لأهداف معينة من النقد والتهشيم المنظم، فالمحتكر السياسي مثل المحتكر الاقتصادي، لا يمكن أن يتخلى عن موقعه بسهولة.
فشلت اللا مركزية التي كان يمكن أن تشكل رافعة جوهرية لبناء جيل جديد من المشتغلين بالسياسة والإدارة، وتتعرض الأحزاب إلى متاعب كثيرة أنتجتها عوامل ثقافية وتاريخية، ويبقى سؤال التمثيل مهماً لأنه وحده ما يمكن أن يخلق أرضاً لتأسيس أي مشروع سياسي واقتصادي، ولذلك فعملية الهندسة التأسيسية التي أطلقتها اللجان المختلفة لا يمكن أن تكون هي النهاية كما يتصور كثيرون، فهي تبقى مجرد رسومات كروكية تحتاج إلى بنية حقيقية.
لماذا وصلنا إلى هذه المرحلة؟ سؤال معقد، وتوجد له الكثير من الإجابات المغرضة، وشماعات كثيرة جاهزة لتعليق أي اتهامات، ومع ذلك، فالأردن ليس جزيرة في المحيط الهادئ، الأردن وسط صراع هو طرف فيه، وداخل الصراع توجد صراعات حول الأردن نتيجة لموقعه ومواقفه، والأردن كان مقصوداً أن يعيش في حالة اللا غرق اللا طفو، وربما اليوم، وبعد تغير الجيواستراتيجية الإقليمية والدولية يمكن للأردن أن يعيش مواجهة مفتوحة مع السؤال الكبير، كيف نطفو؟ والممثلون الحقيقيون وحدهم هم الذين يمكنهم أن يتولوا الإجابة على السؤال، الممثلون الذين لا يرون الأردن دوراً أو وظيفة أو حجراً على رقعة الشطرنج، ولكن يرونه وطناً لم يعرفوا غيره ولا يرتضون سواه.
المفارقة الكبرى، أن مناقشة التمثيل السياسي أصبحت تحتاج ممثلين ليناقشوا من الأفضل تمثيلاً في المستقبل، وتستدعي نفس الصراعات ونفس الأسئلة، وربما علينا أن نفكر في طريقة مثل محمد علي جناح لنتحرر من التساؤلات حول "من؟" و"لماذا؟" ونتفرغ لسؤال "كيف؟".