منذ كان عمري عشرين عاما وأنا أكتب لصحافتنا الأردنية وللحكومة والبرلمان وللاردن بعامة. وعلى مدى عشرين عاما من العمل في رئاسة الوزراء ومجلسي الأعيان والنواب, وقبل ذلك في وكالة الأنباء الأردنية وصحيفة الشرق الأوسط اللندنية والسياسة الكويتية والجزيرة السعودية والصحف الأسبوعية وغيرها, كتبت عشرات آلاف المقالات والبيانات والخطابات والمذكرات والمحاضرات والمداخلات والأخبار والتقارير الصحفية والسياسية, وكان الأردن, ودوما, هو البوصلة الوطنية في كل ما كتبت, والحمد لله.
ومنه ما أستذكر دائما, كمثل رسالة الملك الراحل الحسين رحمه الله, والموجهة لوكالة الأنباء الأردنية في عيد يوبيلها الفضي, وكتاب إستقالة إحدى الحكومات وكتاب رد رئيسها على التكليف لمرة ثانية, ورسالة مجلس النواب إلى جلالة الملك عبدالله الثاني, بشأن حكومة دولة طيب الذكر الدكتور عبدالرؤوف الروابدة, والتي أثارت زوبعة في حينه, والكثير الكثير من المحاضرات السياسية وخطابات العديدين من النواب في جلسات الثقة والموازنة, فضلا عن خطاب الأردن في الكثير الكثير من المؤتمرات البرلمانية الدولية والعربية وغيرها, ولم أتفاخر يوما على أحد, بل آثرت البقاء في الظل دوما, سوى أنني يا ربي, قلت لأحدهم بعد أن أحالوني إلى التقاعد قبل نهاية عقدي بشهور لكي يعينوا على وظيفتي أحدا غيري, سأرسل إليكم شاحنة لتحضر لي كل ما كتبته عندكم على مدى سنوات عملي!
سقت تلك المقدمة الطويلة الخاصة ليس للتباهي لا قدر الله, فمن يكتب لوطنه ولأمته وقضاياها, يؤدي واجبا هو حق عليه إن إستطاع النهوض به بأمانة, وإنما لأقول أن فضاء الكوكب اليوم, يعج بطوفان عارم مما يقال وما يكتب وما يحاك من مؤامرات ومخططات ومطامع وطموحات وتطلعات وأوهام.
هذا الطوفان ليس طارئا, بل هو كان جدولا ربا ماؤه كثيرا عبر عقود خلت حتى غدا طوفانا هادرا لا يمكن لفرد أو جماعة أو دولة بعينها, الإحاطة به وصده, إن هي خضعت ونكصت, أو حتى خافت.
وهذا الطوفان الجارف, جرف في طريقه دولا وشعوبا وما زال يجرف ويضرب وبقوة, بعد أن توفرت له أحدث التقنيات المتطورة على مدار الساعة من جهة, وبعد أن تطورت جدا كذلك, طرق ووسائل وأنماط "التجسس" التي تمارسها الدول والجماعات والمنظمات العالمية بحق بعضها البعض من جهة ثانية, مستفيدة من فضاء إعلامي هائل مفتوح لا مجال أبدا للتغاضي عن مواجهة عواصفه التي لا تهدأ, حتى أن حروب اليوم صارت حروب إعلام وتجسس وإستخبارات عالية الدقة والتأثير, أكثر منها حروب أسلحة, وذلك بإستخدام أكثر التقنيات الإعلامية التجسسية تطورا.
هذا طوفان هائل مرعب يطول الحديث عنه وفيه, فكيف يمكن لدول صغيرة بمجتمعات صغيرة تعدادا تعيش في جغرافيا ذات تموضع إستراتيجي يجعلها وسط العواصف رغما عنها, أن تتكيف وتتحوط في مسعى لحماية ذاتها من الآثار السلبية المدمرة في الغالب, جراء مخرجات هذا الطوفان الذي لن يتوقف ولن يهدأ حتى تقوم الساعة, بغير معجزة من لدن رب العالمين جل في علاه!!.
لو أخذنا الأردن كنموذج لهكذا دول في عين العاصفة, لوجدنا أنه مضطر للمناورة السياسية كل يوم إن لم يكن كل لحظة, كي يرضي هذا, ويتقي شر ذاك, ويحاول أن يفلت من الشر والمطامع والمطامح, ولكن, إلى متى؟, والطوفان في تزايد!.
شخصيا.. رأيي المتواضع يقول بما يلي:
1: أن نتوكل على الله أولا وقبل كل شيء آخر في هذا الوجود, وأن نواصل "المناورة" سياسيا حيال قوى عظمى "ظالمة" نحن بحاجة لمساعداتها, شرط أن لا نتخلى عن مبادئنا وقيمنا وتراثنا وثوابتنا الوطنية الأردنية العربية الإسلامية, وبوصلتنا وحجتنا في هذا, هو شعبنا الواحد الموحد, فهو ورأيه ورؤيته وموقفه ومشاعره, هو حجتنا الأقوى ديمقراطيا, أمام كل ظالم يريد أن يعيد صياغة وإنتاج دولتنا, وفقا لمبادئه ولمعتقداته وقيمه وأنماط عيشه وتفكيره هو تحديدا, دونما إعتبار لمبادئنا وقيمنا وعاداتنا وحضارتنا العربية الإسلامية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ.
2: أن نتصارح رسميين ومدنيين وبشفافية من دون ضبابية تضع شعبنا في متاهة السؤال عن المستقبل, وبالذات حيال هويتنا الوطنية الأردنية, وحيال موقفنا التاريخي من قضية فلسطين وحقوق شعبها ومقدساتها وما يطرح من بالونات إختبار تثير قلق ومخاوف الشعبين على ضفتي نهر الأردن.
3: أن ينصب جل إن لم يكن كل إهتمام مراكز القرار والسلطة في بلدنا , على التنمية, وإقامة المشروعات التشغيلية في كل محافظات الوطن , وأن تكون هذه المشروعات أردنية يفتح الإكتتاب فيها للأردنيين أولا قبل أية مساهمات خارجية, تحت مسمى إستثمار خارجي لم يلمس شعبنا له أثرا يذكر على مدى عقود ثلاثة حتى الآن . فالأرض أردنية , والمستهدفون بالإستثمار هم أردنيون , ومال معظمهم موجود ودائع في بنوكنا وفي بنوك خارجية , وواجب الأردني مالك الملايين , أن يستثمر في وطنه .
4 : أن نحفر ليلا نهارا بأيدينا وبأظافرنا لإستخراج ثروات بلدنا ونؤسس لها شركات أردنية حكومية لتكون موارد مالية لماليتنا عوضا عن جيوب مواطنينا الخاوية المنهكة, وأن نلتفت إلى إنعكاسات هذا الإنهاك ضررا إجتماعيا مدمرا على حياة شعبنا كله , وعلى مستقبل الوطن بمجموعه .
5 : أن تجد الدولة بكل أذرعها المدنية الرسمية والعسكرية والشعبية , معادلة توفر للأردنيين تعليما جامعيا مجانيا ورعاية صحية مجانية ومواد غذائية بأسعار مقبولة ووسائل نقل بأجور مقبولة , وفرصة عمل لأردني واحد مقابل كل لاجيء واحد يستضيفه الأردن , وفي جميع الدول الشقيقة والصديقة وغير الصديقة التي ينوب الأردن عنها في تحمل هذا العبء منذ سنوات طوال, وعلى حساب مائه وهوائه وقوت عياله وقدراته المحدودة .
6 : أن تلزم الدولة كل صاحب حياز زراعية في المملكة بزراعة ربع مساحة حيازته بالمحاصيل الأستراتيجية .. قمح شعير ذرة عدس حمص فول جاف كرسنة ألخ , مقابل تزويده بماء الري وإلا فلا ماء , على أن توفر له البذار المحسن والحصادات بثمن مناسب لتشتري منه المحصول عند جنيه, بدلا من الإستيراد المكلف وغير المتوفر في حالة الحروب. فالدولة التي لا تملك ماءها الكافي ومؤؤنة شعبها الكافية من السلع الاستراتيجية , دولة غير مكتملة لمقومات الدولة !.
7 : أن تبدأ آليات الحكومة والجيش والمتبرعين من المقاولين بتحويل البادية التي نسميها صحراء وما هي بصحراء , إلى واحات من خلال إقامة الحفائر الترابية في طول البادية لحصاد ماء المطر لغايات زراعة الحبوب وسقاية الماشية ووقف الزحف المسمى صحراوي , وإضفاء مسحة جمالية سياحية.
8 : الشروع في حملة وطنية دعوت لها منذ سنوات لإقامة سدود صغيرة آمنة في طول الأردن وعرضه لحصاد ما الشتاء, وبأيد وخبرات أردنية تطوعية تساهم فيها البلديات والجامعات والنقابات والأحزاب والجيش والأمن العام والمقاولون الأثرياء المتبرعون وكل مؤسسات الدولة , وبواقع سد في كل قرية وحتى في عمان نفسها , فالله سبحانه يجود علينا سنويا وفي المعدل بثمانية مليارات متر مكعب من ماء المطر , فيما الطاقة الإستيعابية لسدودنا لا تتعدى 325 مليون متر مكعب فقط !
أخيرا وليس آخرا ... ما يكتب لصالح الوطن كله يجب أن يقرأ وأن يؤخذ به , وهنا نقول, جيد أن نعمل على التحديث السياسي والإداري , ولكن الأجود أن نسد رمق الناس , وأن نحارب الفقر والبطالة والفساد والمحسوبية والشللية, وأن ننزل الناس منازلهم, وأن نقتنع بإهمية المعارضة الموضوعية وأن نناقشها ونسمع صوتها ونتعامل معها كرافعة وطنية مهمة , وأن نضع الناس في صورة ما يجري وما يقال وما يخطط, وأن نعتبر الجميع شركاء في إدارة دولتهم وأن نتصالح مع أنفسنا ومع سائر شعبنا وهو رصيدنا وعدتنا لكل طاريء ولكل المفاجآت , وما أكثرها في هذا الزمان , وأن لا نلتفت للمنافقين المتنفعين على حساب معاناة شعب ووطن ومستقبل أجيال .
الطوفان مرعب وبمقدورنا صده بالتقنية له ليصبح جداول ضحلة, إن نحن توحدنا على قلب رجل واحد, وعززنا ثقة شعبنا بدولته بالمصارحة والمكاشفة السياسية الإعلامية المبدعة المحترفة, وبالمشاركة معا في تسيير دفة الدولة, لنضع كل مواطن عندها أمام مسؤولياته ... عندها لن يخيفنا طوفان, ولا مخطط معاد, ولا إعلام إستخباري موجه , عندما نتسلح بالتوكل على الله لا على سواه , ثم بإحترام إرادة شعبنا الواحد الموحد, وما خاب من توكل , وبهمة وبإرادة شعبه تغطى . الله من أمام قصدي .