يمكن أن نتفهّم جيّداً وجهة نظر المتخوّفين والمشكّكين من السياسيين، وحتى المواطنين الأردنيين، من ألا تنتهي كل هذه الإجراءات والتغييرات في قوانين الانتخاب والأحزاب والتحولات في الخطاب الرسمي والسياسات المعلنة تجاه تشجيع العمل الحزبي وإدماج جيل الشباب فيه.
هنالك بالضرورة تجربة سلبية متراكمة لدى الأردنيين في مصداقية الدولة في المضي بهذا الاتجاه، وسبق أن كانت هنالك لجان عديدة متخصّصة في الإصلاح السياسي؛ منذ الأجندة الوطنية، ثم الحوار الوطني، ولاحقاً تحديث المنظومة السياسية، وكلّها لم تسفر عن تغييراتٍ جوهرية في العملية السياسية، بقدر ما أفضت إلى خيبات أمل جديدة.
مع الاعتراف بوجاهة الرأي السابق، هنالك زاوية أخرى للنظر، من الضروري أن نأخذها بعين الاعتبار؛ ذلك أنّ هنالك إقراراً لقوانين انتخاب وأحزاب جديدة حدث، وهي قوانين تشكّل نقلة نوعية كبيرة في التشريعات الأردنية، إذ تعيد تمركز الأحزاب السياسية كأحد أهم ديناميكيات الحياة السياسية، بعد أن كانت سابقاً تعدّ هامشية، أو ليست ضرورية للوصول إلى مجلس النواب وإنتاج النخب السياسية، فما حدث هو تحوّل مهم من حيث المبدأ.
يرتبط بما سبق أنّ هنالك تحولات موازية أخرى، منها ما يتعلق بوضع كتبٍ جديدةٍ في التربية والتعليم لكسر جدران العزل بين الطلبة والأحزاب وفي الجامعات، وكان لقاء الملك عبدالله الثاني أخيرا مع رؤساء الجامعات، وسيكون هنالك لقاءات شبيهة مع القيادات الجامعية؛ ذلك كلّه يمثل مؤشّراً على أنّ هنالك عملية حقيقية على الأرض تجري، وأن القناعة راسخة بضرورة نقل العملية السياسية نحو المربعات الجديدة؛ أي الحكومات الحزبية ذات الأغلبية البرلمانية.
كان الشباب الأردني قبل لجنة تحديث المنظومة السياسية يشعرون بحالة من الاغتراب والإحباط، وأصبح الشارع ميدان التعبير الرئيس عن مطالبه السياسية والاقتصادية، لذلك العملية الإصلاحية أو التحديثية كما يحلو للمسؤولين تسميتها، بنيت على إدراك أنّ استيعاب جيل الشباب وفتح المساحات السياسية القانونية والسياسية المنظمة لهم أفضل كثيراً من سياسات الشارع التي لا يوجد رابط ولا ضابط لها.
ما يحدث إذاً، يؤكّد أنّ التذكرة هي بمسار واحد "One Way Ticket"، بلا رجعة ولا عودة، لأنّ ما يحدُث حالياً من ديناميكيات جديدة في التعامل مع جيل الشباب وكسر الحواجز النفسية والثقافية والدخول على المجال التعليمي ليس أمراً سهلاً، ولن تكون نتائجه سطحية أو عابرة، بل عميقة وبنيوية حتى لو افترضنا جدلاً أنّ هنالك من استطاع إقناع مراكز القرار بخطأ ما حدث وضرورة العودة إلى وراء، فإنّ ذلك سيكون خياراً غير ممكن وسيواجه عقبات شديدة بطبيعة الحال.
الأهم من ذلك كلّه أنّ ما يحدُث على أرض الواقع اليوم من تحوّلات وتغييرات واختراقات هو مكسبٌ كبير بحدّ ذاته للمسار الديمقراطي، حتى لو افترضنا أنه لن تكون هنالك نتائج كبيرة قريباً، لماذا؟ لأنّ محرمات وأمورا كثيرة كانت تحتاج إلى جهود جبارة ونقاشات طويلة تحققت في فترة قياسية، فالباب أصبح مفتوحاً أمام الأحزاب السياسية في الجامعات والعمل العام، ومن يعرقل ذلك هو من يحاسَب، والخطاب الملكي والرسمي للدولة كله يصبّ على التغيير وتشجيع الشباب على العمل السياسي، وأي اتجاه مضاد لذلك سيكون هو الشاذّ والمنبوذ، وليس العكس، فضلاً عن تدريس مواد عن الأحزاب والديمقراطية والعمل السياسي في المدارس والجامعات وإطلاق مئات الورشات المنظّمة في المملكة لتطوير مهارات الشباب وقدراتهم في العمل السياسي وانخراطهم في الأحزاب، فهذه جميعاً نتائج مهمة ونوعية تحققت.
المشكلة في خيار التشكيك بجدّية الدولة ورفض بعض التعديلات والبنود في العملية الجارية أنّه، بالرغم من وجاهته مرة أخرى، يضيع فرصة ثمينة لتحقيق نتائج عديدة على المستويين القريب والبعيد، ويترك الساحة لمجموعةٍ قد تكون لا تؤمن أصلاً بالديمقراطية والعمل الحزبي لكنها تريد ركوب الموجة، فبدلاً من انتقاد هذه المجموعة من الأفضل المبادرة للتفكير في الإفادة من الفرصة وفتح الأبواب لتطوير العملين الحزبي والسياسي.
عملية التحديث الجارية اليوم أو الصفقة الموضوعة على الطاولة لا توجد فيها خسارة لمن أراد أن يأخذها "Win- Win"، وتنتج شروطاً أفضل لعمل سياسي حزبي، وللتفاوض مستقبلاً على تحسين قواعد اللعبة السياسية.
"العربي الجديد"