إنها فرصةٌ ذات قيمةٍ عالية أن يستمع الرئيس جو بايدن للعرب في لقاء جدة. لكن التوازن الجيوسياسي يستدعي دعوةً للرئيس الروسي والرئيس الصيني للقاءٍ مماثل و لتفاهمات مع تركيا و إيران لأن الموازين تغيرت و ينبغي على العرب أن يتمركزوا و يستقووا بهذا التغيير. و لا أظن أن الزعماء العرب الذين التقوا بايدن غافلون عن الحاجة للتوازن و الموقع العربي منه، فقد كانت الكلمات بليغة في توضيح الموقف العربي للولايات المتحدة التي تحمل إصرارا على إفهام العالم أنها لا تزال الآمر الناهي بمنطقتنا. لقد تعهد الرئيس الأمريكي أن لا يترك المنطقة للروس و الصينيين كما تعهد أن لا تصل إيران للسلاح النووي و الأخيرهو تعهد جدي و يهمنا فعلا أن تخلو منطقتنا من السلاح النووي. لكن الرئيس الأمريكي لم يتعهد بمنع الربيبة العنصرية "إسرائيل" من سلاحها النووي و هي التي تحمل في غواصاتها و طائراتها و صواريخها السلاح النووي الذي لا يذكره سياسي غربي و لا منظمات الرقابة والحظر للأسلحة المبيدة للبشرية. ثم ماذا لو اتجهت مصر و السعودية مثلاً لهذا الاتجاه و لتطوير سلاحها النووي لخلق التوازن لأنه قطعا لن تتخلى "إسرائيل" عن السلاح النووي و لن تقف إيران عن تطوير مقدراتها النووية و إن قالت أنها لا تطور السلاح النووي من زاوية حرمته الدينية و سيحتاج العرب لسلاحهم النووي مثل باقي الأمم. هل سيقف الرئيس الأمريكي أمام الرغبة العربية أم أن المعادلة التي يريد للعرب هي انضواءهم تحت حماية المظلة النووية "الإسرائيلية" مقابل عدوتهم الإيرانية؟ سؤال ينبغي طرحه.
وجميل أن تبتعد الدول العربية مثلما قالت الإمارات و مصر عن فكرة الحلف ضد إيران. فليس من المصلحة العربية أن تستعدي إيران و لا من المصلحة الإيرانية أن تستعدي العرب. و الثناء لذلك بمحله للوساطة العراقية لإذكاء التقارب على أسس واضحة بين السعودية و إيران. و كذلك للتصريحات الأردنية عن الحاجة لعلاقات "صحية" مع إيران كما تم وصفها. نقول هذا لأن التقارب العربي الإيراني له مزاياه و ليس أبسطها قولاً تخفيض التوتر الناجم عن التخاطب بين الطرفين عبر الإعلام في شؤون مصيرية للعرب و للإيرانيين. نحن لا نقلل من حدة الخلافات و لا من الريبة المتبادلة لكننا نستدعي حكمة الجميع للجم الاندفاعات نحو المجهول الإقليمي في منطقةِ تصارع القوى الدولية و ممرات النفط والغاز للعالم. و يعني هذا الحاجة فعلاً للحديث عن ما تم تسميته في الاجتماع العربي مع بايدن بالميليشيات و يقفز للذهن حزب الله والأحزاب العراقية المتسلحة طائفياً كما تلك المنتشرة في سوريا و التي تتماهى معها دول حلف الناتو مع استثناء داعش و الحركة الكردية وكلها قطعاً تعيش خارج نطاق السيادة و الشرعية. الحديث العربي الإيراني و العربي التركي بهذا الشأن مطلوب لأن إيران و إن تقول أن لا شأن لها بهذه الأحزاب فإنها تمنحهم كما هو معروف و واضح شرعيةً دينية و دعماً مادياً. هي طرفٌ أساسي في وجودهم و تسليحهم. و الشأن ذاته لتركيا مع الحركات السنية. لكن الحديث يجب أن يكون، و أن يتحول، من اشتباكٍ كلامي لهدنةٍ بعيدة الأمد يُستفاد منها في التوازن الإقليمي على أساسٍ عربي. قد تكون هذه الأفكار بعيدةً عن الواقعية السياسية وعن هوى و مصلحة الكثير الذين يودون الإبقاء على أقصى درجات التوتر بل و الحرب لكن الاعتراف ضروري بواقع وجود الحليف العربي لإيران و تركيا و قوته و صعوبة التخلص منه، حسب بعض المنطق العربي و الغربي و الشرقي. و لهذا فإن تعايشاً مصلحياً بين العرب على اختلاف طوائفهم لهو أفضل من عداءٍ لا يقود لنتيجةٍ. و بالطبع يستدعي هذا إنهاء عبثية الحرب اليمنية و السورية.
المعضلة الأزلية هي في التصميم الأمريكي "الإسرائيلي" المدعوم غربياً أولا لخنق كل آمال العرب بتحرير فلسطين و الجولان و ثانيا إعادة إيران للسياسة الشاهنشاهية الموالية على اعتبار الجمهورية الإسلامية هي الشيطان الأكبر في المنطقة للغرب عموما و ثالثاً تجيير المنطقة بلا هوادة للغرب. الهدفان الأولان مستحيلان عملياً فلا حلم التحرير سيذوي و لا إيران ستعود للماضي دون دمارٍ شامل. قد تطغى موجة التطبيع على الآمال العربية لكن دفع إيران للوراء ليس هدفاً يمكن تحقيقه دون خسائر و قد تكون الخسارة الكبرى انحسار التطبيع نفسه و إيقاد جذوة مقاومةٍ لا تهدأ. و لا تتوانى "إسرائيل" عن وأد المطلب العربي بالدولتين بافتعال كل سبب يجعل المطلب مستحيلاً و من خلال تنمية شبكة التطبيع المتواترة الممتدة و المتعمقة رغم الرفض الشعبي بحيث لا يهم فعلاً قيام دولة فلسطين و لا حدود ١٩٦٧ ما دامت فوائد التطبيع تأتي بلا مشاكل و تقييد الفلسطينيين يجري هو الآخر دون عناء كبير. و لن تقف أمريكا بوجهها بالتأكيد و هي تمارس سياسات العنصرية فلقد التزم بايدن و من قبله و من سيخلفه بأمن و بقاء الربيبة. لكن "إسرائيل" التي ضمنت حلفاء عرب لن تتراجع عن عداء إيران و مأزقها اليوم أن محصلة العداء إن كانت حرباً فهي كارثية و إن كانت عداءً دون حرب فكارثةٌ دون شك جراء النمو الإيراني و الحلفاء المضطرد والكراهية المتولدة بالساعة بين الأطراف.
أما فيما يخص الهدف الثالث فنعود لفكرتنا التي ابتدأت المقالة و هي ضرورة التوازن بعقد لقاء عربي روسي صيني على الأقل يقول أن للعرب تأثيرهم الدولي في المعادلة الكونية التي تتشكل اليوم. و إن لم يكن من توازنٍ بهذا الاتجاه و بتغليب المصلحة العربية فمن يعش منا سيتذكر قول "إسرائيل" أن نتائج زيارة بايدن ستتضح خلال السنوات القادمة و أظنها نتائج لن تكون بصالحنا. فكما قيل، تأبى الرماح إن اجتمعن تكسرا و إن افترقن تكسرن آحادا.