إلى حيث اتجاه الأمان يتم الهروب؛ وبعيداً عن مصدر الخطر يتم الانطلاق، وعادة ما يكون الفرار سريعاً قوياً، وبأقل طاقة تفكير، وبأعلى طاقة جسد، فالهروب من حريق في مبنى يكون لخارجه، والهروب من ضيق النفس يكون بالتنزه في حديقة غناء، والهروب من ضغوطات الحياة يكون بالترفيه برحلة في ربوع الطبيعة، والهروب من الواقع المرير يكون بتغييب الحواس عن معاناة العيش فيه، إما بالنسيان او باللهو والهذيان ، والهروب من مناكب الارض الواسعه/الضيقة كان بغزو الفضاء، والهروب من الدراسة وضغوطها يكون بالرياضة بالهواء الطلق، والهروب من بلد ضنك العيش يكون لغيرها بالهجرة، وكلها هروب للخارج بعيداً عن حدود النفس والجسد المتعب، فمتى يكون الهروب للداخل؟ داخل الروح والقلب والذات.
لا شك ان مصادر الخطر او الضيق قد تغيرت مواقعها؛ لم تعد كما كانت سابقاً، كل ما حولنا يسبب لنا المتاعب والالم، ارتفاع الاسعار، قلة الوظائف، ارتفاع وقود السيارات، ازدحام الطرقات، الضرائب في كل مكان، حسد وحقد ووشاية ونفاق، حتى الكورونا وتداعياتها الزمتنا البيوت، فأمست الدواخل هي الملاذ الآمن، وأمسى التقوقع والانعزال على منصات التواصل لفترات طويلة حتمية لا مناص منها ولو لبضع ساعات يوميا، لقد اصبح هروبنا للداخل من حيث لا ندري، للبيت او الخلوي، بعدما كان للخارج والهواء الطلق وهبات نسيم العصر العليلة، وصدقت فينا مقولة (بيتك أوسع لك).
ولكن هل وجدنا الامان في الدواخل؟ ام اننا هربنا من تحت الدلف الى تحت الميزاب، الداخل يفترض ان يكون بردا وسلاما، روحاً مطمئنه، ركناً نلوذ به، سلاما داخليا غير هائج الامواج، خالٍ من الاضطرابات النفسية، هادئاً مستكناً وادعا، فيه سكينة دافئة شتاء، باردة صيفا، جو رائع تتكيف فيه درجات التلون والحرارة، لتنصهر جميعها في بوتقة واحدة آمنه، معتدلة المزاج، معتدلة الحرارة، معتدلة التغييرات، بحيث تخفض العالي منها، وترفع المنخفض منها، لتصل الى نقطة الاتزان النفسي والعاطفي، وإلا لن تكون الدواخل ملاذا للهروب اليها، بل ستكون جحيما يزيد النفس غلياناً، او يجمدها زمهريرا.
ما الذي يجعل الروح تتصف بتلك الصفات العقلانية الجمة، وبتلك العواطف الامنة المتزنه، وكيف نحافظ عليها بكل ذلك البرود او الدفء وقت الغليان الداخلي او الجفاف العاطفي، هل من سبيل لذياك الخروج، وهل من طريق لهاتيك الملاذات الحريرية الآمنه؟
نعم هناك عدة طرق للحفاظ على اجزاء الروح في مستودعات آمنة، داخل ثلاجات حافظة تهدأ فيها النفس الثائرة، أولها وأهمها، الفرار الى الله، (ففروا الى الله)، لان الله تعالى هو خالقها وواضع كتالوج صناعتها وهي من علم الغيب عنده، والنفس المطمئنة هي الوحيدة التي تكون راضية مرضية، وليست النفس اللوامة، ولا النفس الامارة بالسوء، فالاولى ملاذ، والثانية جلد ذات، والثالثة جلد الغير بالسوء.
ومن الطرق التي توصلها بالله تدبر القرآن الكريم، الذي هو كلام الله المهذب للروح، يغذيها بالاخلاق اللازمة لتزييت محركات الجسد بالحياة، فينطق مثلاً الصدق ليرتاح القلب ويريح الاخرين، ويأكل الجسد حلالا ليطيب ويتعافى، ويضمحل الحسد لوجود الايمان بفردية الارزاق والاعمار والحظوظ، ويموت الكبر تواضعا لخالقه، وتذللا اليه، وينقطع الغدر، وتكفن الخيانة، وينتحر النفاق، ويصحو العقل، وينشط الضمير، وتخلو المفاسد من مقاصدها فتقع ارضا، وتحلو الملذات ببساطتها لتقل الى اساسيات مستدامة رائعة، وتزهد الكماليات لعدم الحاجة اليها، وهكذا تسمو الروح بأخلاقها لدرجات عليا، لتصل الى حيث اتت من عند بارئها، فتكون بذلك ملاذا طاهرا عبقا طيبا، يستحق الهروب اليه من اي خطر يحدق بصاحبها أو ضيق يلحق به.
ومنها الصديق الوفي، المعاضد لا المعارض، الطيب لا الخبيث، ومنها كتاب قيم كجليس مؤنس، ومنها خلوات بليالي هادئة، ومنها صفنات تفكر بهدأة سحر، وتتعدد طرق الوصول لنفس هادئة مُطمئَنة بذاتها مُطمْئِنة لصاحبها ، وقلب سليم، وروح وادعه، وعقل راجح، وحكمة فيها خير، لتشكل بمجموعها شبكة من أعواد خضراء لذلك العش الصغير الذي اليه تؤول كل عصافير الغدو والاصيل، وتصفّر فيه كل ارتفاعات الغضب وانخفاضات الاحباط. انه العش الجميل في اعالي شجرة الروح، تغيب فيه عن الانظار كل مصادر الخطر والتهديد والانفعالات العاصفة.
خلاصة القول؛ اذا استطاع المرء ان يبني له في روحه عشاً وادعا آمنا، يستقر في أعالي اغصان شجرة جسده الضاربة جذورها في تراب منبته، يلجأ اليه كلما حاولت لسعه أفاعي الارض، او هوام الوحوش المفترسة من حوله، او حتى سهام الغدر الطائشة من بني جنسه وجلدته، فسيكون ذاك العش ملاذه الآمن الذي يهرب اليه وقت الضيق والخطر، هروبا من الخارج المضطرب للداخل الساكن الصامت الآمن.