المركزي الأردني ورحلة استعادة الثقة في البناء المؤسسي
سامح المحاريق
01-07-2022 10:25 AM
بقي منصب محافظ البنك المركزي الأردني يحمل نكهة سياسية، ولذلك استبعد الكثيرون الأخبار المبكرة التي تحدثت عن تعيين عادل شركس في منصب المحافظ، والعامل الوحيد الذي كان يؤيد اختياره هو التوقيت الذي يتزامن مع توابع أزمة كورونا، أو ما يمكن تسميته بالتعامل مع مخلفات العاصفة، فالأموال التي تدفقت للمساعدات في الدول الغربية كانت تنذر بنتائج تضخمية لم يكن أحد يمتلك الجرأة أمام المشاهد الكارثية والمفزعة.
في الأردن تحدث وزير المالية مع بداية التفشي الوبائي بجملته الشهيرة "والباقي تفاصيل"، وكما يقولون، تلك كانت "السكرة" ولم تتأخر "الفكرة" سواء على المستوى المحلي أو العالمي، وبدأ الوزير نفسه يتحدث بعد ذلك عن ضرورة تعويض الكلفة المالية المباشرة التي ارتبطت بالأزمة.
عادةً ما يلجأ السياسيون للتعامل مع الموضوعات الاقتصادية، ومع تعثر الحلول أو تباطؤها، يلجأون للماليين للتدخل بإجراءات بعضها تلطيفي والآخر تصحيحي، ومع نضوب الحلول المالية تتأتى الحلول النقدية، وعادة ما تكون أكثر تحديداً وصعوبة في التعامل من الناحية الفنية، وفي الأردن تلقى على عاتق المسؤولين عن السياسات النقدية مسؤولية جسيمة تسمى بسعر صرف الدينار الأردني، وهو ما يرتبط بالتحكم بالمعروض من النقد وتنافسية الدينار مقابل العملات الأخرى.
سعر صرف الدينار الأردني يمثل عبئاً كبيراً على عاتق الاقتصاد الأردني بشكل عام، ولا أعرف مدى دقة الوصف بأن سعر الدينار المربوط بالدولار الأمريكي هو أحد أوجه الدعم الخفية التي تقدم للمواطن الأردني، وتساعده على ممارسة استهلاك يفوق قدرات الأردن الإنتاجية، بمعنى أن الأردن يستورد بناء على سعر دينار جيد نسبياً، وهو ما لا يعبر عن ميزة نسبية في الاقتصاد.
هذه مشكلة اقتصادية لم تتمكن الحكومات المتتابعة وتركيبة العلاقة مع السلطات التشريعية من تجاوزها، وبقيت شعارات دولة الإنتاج وغيرها معطلة لأنها لم تستطع أن تترجم نفسها في برامج واضحة تنظمها تشريعات ايجابية ومشجعة، ولذلك كان متوقعاً أن يتقدم المركزي إلى بؤرة الاهتمام مع أجواء التأزم العالمي.
المواطن العادي لم يكن يعلم قبل أشهر ما الذي يعنيه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ولكنه وجد نفسه يتابع أخباره، ويحاول بناء التوقعات على أساس قراراته، فهذه القرارات تأخذ أثراً مباشراً على أمواله الخاصة، فتزيد من قيمة أقساط القروض، والمواطن الذي يضج بهذه الارتفاعات يتجاهل أحياناً أن الرفع هو الذي يحفظ قيمة أمواله التبادلية وقدرته على الاستهلاك وفق المعدلات التي اعتادها، ويبقى التضخم الذي تحركه عوامل مرتبطة بسلاسل التوريد والحرب على أوكرانيا موضوعاً آخر.
لا توجد فسحة مالية، وكل ما في وسع الحكومة أن تمارسه اليوم هو "فليسعد النطق إن لم يسعد الحال"، ولكن بالطبع ليس على طريقة "الباقي تفاصيل"، وعليه، فالبنك المركزي من الأساس تحت ضغوطات كبيرة تتمثل في إدارة المشهد العام المتعلق بجيوب الأردنيين، وهذه الجيوب مرهقة بدورها، والقادم صعب للغاية، ولكن لا تبدو مؤشرات للدخول في أزمة مشابهة لما حدث في 1989 فهي السنة التي كان على الأردن أن يدفع ومرةً واحدةً ثمن البنية التحتية التي تطورت في الستينيات والسبعينيات، وأنماط المعيشة التي تشكلت في رعائية الدولة والتوسع في التعيينات داخل الجهاز الحكومي، وتراجع كفاءة الشركات الحكومية وأمور أخرى كثيرة.
الأردن بحاجة لدفعة مالية كبيرة تمكنه من التعامل مع تراكم المديونية منذ 2011 مدفوعة بتغيرات توريد الطاقة بعد انقطاع الغاز المصري في أعقاب ثورة يناير، وأزمة اللجوء السوري والتكاليف الباهظة للتعامل مع التهديدات الأمنية ومحاولات استيعاب الغضب الشعبي الذي كان يتفاعل لأسباب اقتصادية، وهذه الدفعة لا يمكن أن تتأتى إلا من خلال الاستثمار، والقانون الموعود ومعه الإصلاحات الهيكلية اللازمة لتشجيع الاستثمار تسير ببطء، وتواجه الأردن صراعات مكبوتة في الصالونات السياسية وندوات المتقاعدين من نادي الدولة، بين بيروقراطيين وليبراليين، وبين أصحاب مصالح فئوية مثل القطاعات التجارية أو المهنية الذين يتمكنون من وجود عميق في المؤسسة التشريعية وعلاقة "خذ وهات" مع الحكومة.
أمام هذه التحديات لا يمكن أن يعتبر عادل شركس محظوظاً، وعندما قابلته لمرات عدة في الفترة الأخيرة وجدته مختلفاً عن الرجل الذي كان قبل أن يتولى المنصب، فهو يعرف جيداً أن المسؤوليات جسيمة، وأن المتوقع منه هو التعامل مع أزمة غير مسبوقة وغير معرفة سابقاً في الأدبيات الاقتصادية، في الوقت الذي يدفع الجميع بالبنك المركزي لبؤرة الحدث الاقتصادي، فهل يتمسك بالجانب المهني الصارم للبنوك المركزية ويلتزم بدور صمام الأمان، أم يتقدم تحت اغراءات المشهد الراهن إلى أدوار أخرى، خاصة أن البعض يلوذ بالمنطقة الهادئة ويمضي في تعداد الأيام المتبقية حتى التغيير المقبل.
ربما كان على الدولة أن تنظر في رصيدها من الرجال المشابهين في تجربتهم لشركس، أي الذين صعدوا داخل المواقع القيادية بتسلسل منطقي ومفهوم، وليس الطارئين الذين يهبطون فجأة ويتفرغون بعد الخروج من مناصبهم لانتقاد القطاعات التي كان يفترض أن يقوموا بتطويرها، ولذلك يعني نجاح شركس في مهمته وقيادة الدفة النقدية في البلاد الكثير بالنسبة لأبناء الدولة العميقة التي لا يمكن أن تعتبر في الأردن أمراً سلبياً على شاكلة ما يحدث في دول أخرى مثل تركيا ومصر، وهذه قصة أخرى سيكون لها حديث قادم.
مع كل ما تقدم، لا أحب أن أرى توقيع شركس على الكثير من أوراق النقد في المرحلة المقبلة، وفي الوقت نفسه، أتمنى نجاحاً يسجل من أجل الأردن والأردنيين بأن يتحملوا نصيباً عادلاً ومعقولاً من تكلفة الأزمة المحلية والعالمية، ومن أجل فكرة أبناء المؤسسات الذين يمكنهم أن يحققوا الفارق المطلوب في الظروف الصعبة بما يعزز الثقة في فكرة المؤسسات نفسها.