التالي هو محاولةَ فهم. ليس اصطفافاً مع جهة ولا هجوماً على جهة. هو في هذه المَدَاخةِ العربيةِ نَشاطٌ ذهنيٌّ لِمُتابعٍ للتطورات العربية والدولية في سعيِّهِ لفهمِ ما يحدث.
إن صدقتْ التنبؤاتُ الصحفيةُ عن عودةِ علاقات حركةِ حماس مع سورية كما التي سادتْ ما قبلَ ٢٠١١ فإنَّ هذا يُعَبِّرُ فعلاً عن صِدْقِ مبدأ المصالح فوقَ العقائدِ في عالمِ السياسةِ. ثُمَّ أنهُ إشارةٌ يستقيها المراقب بتوهانِ البوصلةِ الحماسية السياسيةِ لِعَقْدٍ من الزمان و تقلقُلِها ما بينَ مناصرةِ أحلامِ التغيير المبني على العقيدة و ما تتطلبهُ المقاومة من دعمٍ لا يمكن الحصول عليه عبر الأحلام.
حركة حماس اختارت طوْعاً، تحت الضغوطِ أو عِناداً موقفاً مزدوجاً عندما تبنتْ سياسةً أبعدتها عن سورية سياسياً بينما التزمت أجنحتها عسكرياً بالحلفِ الذي جمعها مع محور المقاومة و هو الحلف الذي مَكَّنَ الجناح العسكري في غزة من تطوير مقدرته العسكرية. هل كان هذا الموقفُ من الأحلام أم نفاقاً أم خطةً مُحكمةً لِقطفِ الثمار على أي شجرةٍ نمتْ؟ لا أعلم.
نحاول فهم هذا الإنشطار، بين السياسي والعسكري في هذه الحركة، و فهم مبررات العودة للعلاقات مع سوريا.
قليلونَ في شعوب المنطقة الذين يتعاملون مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين و جولان سوريا و شبعا لبنان و التمدد المُتسارع للصهيونية في الدولِ العربيةِ و الإسلاميةِ على أنهُ حالةٌ سياسيةٌ بحتة. الأغلبيةُ يُرْجِعونها للصراع الديني بين العقائدِ اليهودية و المسيحية و الإسلام. و إن تسعى الجهات الدينية و الدول للتعايش الديني و تقارب الأديان و إيجاد المشتركات بينها فالعقل و الوعي العام يبقى بعيداً عن هذه الخطوات في سياق التعلق بالمعركة الأخيرة و بالمنتصر من هذه الأديان. فعندَ تابعي العقائد الثلاثِ إيمانٌ بالمعركة الكُبرى و إنتصار العقيدة الصحيحة التي يؤمنون بها. عندهم المعركة قادمةٌ و النهايةُ محسومةٌ لصالحهم. المسلمون يؤمنون بانتصارهم، و لدى اليهود و المسيحيون كذلك إيمانٌ بانتصارهم، كُلٌّ على الباقي. هذا في نهايةِ الزمانِ الذي لا يعلمُ أَحدٌ وقتهُ و معظمنا كمن سبقنا و من سيأتي بعدنا لن يلحق بهِ. و إلى أن تسل البشرية لذاكِ الوقت تترافق السياسةُ و العقيدةُ في تبادلِ أدوارٍ تحدوهُ الحاجةَ للاستعداد، للمعركةِ الكُبرى، والبقاء حتى الوصول لها بالقوة اللازمة لهزيمة الأعداء. إنهُ البقاء بالمعنى الدنيوي المدعم بالاستعداد العسكري. تَخَيَلَهُ شارعاً طويلاً ملتوياً صاعداً و هابطاً ضيِّقاً و واسعاً و به ثلاثُ متسابقين يتجاورون في المسير و كُلٌّ مُتسابقٍ منهم سيفعلُ اللازمَ ليصل قبل الباقِيَيْنْ مع علمهِ أن النهايةَ المكتوبةَ تقتضي وجودهما عند خط النهاية لخوضِ الصراعِ الأخير و انتصاره الموعود. نحن لا نشك بارتفاع رايةِ الإسلام و لكن علينا أن نعلمَ أن الآخرين لديهم نفس الإيمان و الدليل لن يأتي إلا عندما يقضي الله ما هو مفعول. هذا فيما يتعلق بالأديان الكتابية و لنا أن نتصور حجم التنافس بإضافة المعتقدات الكثيرة في هذا العالم. لكننا نبقى بمنطقتنا.
بهذا الإيمان تُديرُ الحركات الإسلامية سياستها و كذلك إيران التي تُحكمُ دينياً، بل هي نظرتها التاريخية الاستراتيجية. و لهذا انتشت حركةُ حماس السياسية بالربيع العربي الذي رأتهُ يأتي لها بالنهضةِ التونسية و الإخوان بِمِصرْ حلفاء طبيعيين دينياً، و تعلقت بأهداب الأوردوغانية التي ساندتها. ثم يأتي مارس ٢٠١١ وبدء الصراع في سورية وارتفاع راياتِ التدينية السورية المختلفة. فينقِلِبُ جناحها السياسي على سورية مُعتقِداً أن هذه الرايات التي ارتفعت ببلاد الشام تَجُّبُ ما قبلها من حلف مع حكومةٍ علمانيةٍ غير صديقةٍ للأخوان و أن الأوضاع الجديدة تبشِّرُ بمستقبلٍ لها فيه حصةً واسعةً و ترحلُ عن بلدٍ احتضنها لسنوات خالقة الكثيرٍ من المرارة و الاتهامات.
ما هو تفسيرُ ذلك الاتجاه الذي تبنَّتْهُ الحركة سياسياً مع نأي جناحها العسكري عنه؟ هل كان شرخاً غير مقصودٍ فيها أم مُخططاً فيهِ نوعٌ من التقيِّةِ السابقةِ للحرب السورية و لاحقةٌ لها يحدوهُ الأملِ بانتصار العقيدة أخيراً؟ أم أنه، للواقعية السياسية، كان نتيجة ضغوطٍ من داعمي حماس، مثل تركيا و إخوان مصر، للتخلي عن سوريا العلمانية و انتظار سوريا الدينية؟ لا أدري، و قد تكون كل هذه الأسباب مجتمعةً. ما يهم الآن أن الحركة كما تقولُ الأخبار تريدُ عودةَ العلاقات مع سورية ما يعني ماذا؟ هل هو اقتناعها بزوال احتمال استلام حكمٍ مغايرٍ للحكومة السورية الحالية؟ أم هي المرونة السياسية و المصلحة مرةً ثانية؟ أظنها لن تكون مهمةً سهلةً لبعض وجوه قيادات حماس السياسية أن تستقبلهم دمشق بالأحضان. و بِغَضِّ النظرِ عن شخصنة العودة سواء دشنها هنية أم مشعل فالعلاقات، إن عادت، فلهذه التغيرات، ربما!
أولها هو سقوطُ الحركاتِ الإسلامية الحاكمة في تونس و مصر. وارتداد المد المعارض في سوريا لصالح دمشق وأن السيطرة على ما بقي خارج الحكومة في إدلب و الشمال الحلبي هي بيدِ حركاتٍ إسلاميةِ التوجه لكنها مُرتَزِقَةَ الدعم ولا تتوافق و حماس. و في باديةِ سوريا، داعش الإرهابية التي لن تستطيع حماس تبرير علاقةٍ معها و لا السيطرةَ على تبعات علاقةٍ معها حتى إن كانت. و الثاني هو التمايز التركي الأمني و السياسي و الدبلوماسي المتصاعد في الإيجابية مع "إسرائيل" مما وضعَ حماس في حرجٍ سياسيٍ إن لم يكن تضييقاً عملياتياً في تركيا التي ما فتئت تتميز بدعمها لغزة و حماس. و ثالثها هو تواصل الضغط الصهيوني من جهة و الدعم الذي تحظى به المقاومة في غزة من محورِ المقاومة من الجهة المقابلة مما لا يدعُ مُبرراً لاستعداء سوريا خاصةً مع تلكؤ حصاد معركة "سيف القدس". و رابعها أن المنطقة تتجهُ نحو تطوراتٍ كبيرة بدأت بالتطبيع العربي "الإسرائيلي" المستعجل و تمرُ بالاصطفاف و التطورات عازلةً ما أمكنَ من هو ضد التطبيع أو من هو في الصف الإيراني و عازمةً تقويةَ موجةَ التطبيع. و خامسها هو أنه ليس لحماس من وجودٍ كما يتضح إلا في قطر ولبنان ولذلك فمن مصلحة الحركة إحياء علاقات متجددة مع سورية لتُوازِنَ الزخمَ السياسي و العسكري الضاغط عليها. و سادسها فمن الواضح أن العالم ينقسمُ لمعسكرين و حماس لن تكون في المعسكر الغربي و ترغب بالطبع أن تقترب من معسكر موسكو- طهران و مفتاح بابه كما يبدو هو في دمشق. و أخيراً، أنه لا ترحيبَ للحركة في معظم العواصم العربية مهما اجتهدت.
فما أَبْعَدَ هذه الأسباب المنطقية السياسية عن طموحٍ عقائديٍّ تخيلتهُ الحركة إبَّانَ فورة الربيع العربي. بالمُختصَر، لقد تباعدت الحركة سياسياً من مناصريها على أُسِسٍ عقيدية وهي آملةٌ بتحول المنطقة لحاضنةٍ عقيديةٍ ضد "إسرائيل" وربما لتبني الدولة الإسلامية ذات المذهب السني المتشدد. لكن الحركة لم تنفصل عسكرياً عن هؤلاء الحلفاء عندما حافظت على مصلحتها العسكرية حتى مع اختلافها المذهبي معهم في محور المقاومة. و لعلنا رأينا هنا نوعاً من التمايزِ أو الخلاف بين الداخل الحمساوي العسكري السياسي و الخارج الحمساوي السياسي. و المعروف أن التمايزَ المخططُ له هو نوعٌ من السياسة لإبقاء قدمك في كل مربعات الاحتمالات. رِهانٌ على الكل. لكنه في عالم السياسة يُعتبرُ انتهازيةً مكشوفة. و التمايز قد يعني اختلافاً جوهرياً في الرؤية داخل الحركة بين من يؤيدُ توجهاً عقائديا مع أن هذا التوجه لم يقف عسكريا و سياسيا مع حماس و بين من يُثَّمِنُ التحالف العسكري على العقائدي. هكذا يبدو المشهد الحماسي. واليوم يريد الخارج الحمساوي السياسي إعادة المياهِ لمجاريها مع دمشق التي لم تنقطع عن السلطة الفلسطينية و لا باقي الحركات الفلسطينية و لا باعتقادي مع حماس العسكرية بالداخل. إعمالاً للنشاط الذهني و الفضول، لماذا؟ باعتقادي أنها لحماس تلك الأسباب التي ذكرتُ أعلاه و لسوريا فلا يوجد من مصلحةٍ لدمشق بالتقارب لإعادة علاقاتٍ مع حماس السياسية الخارجية طالما أمورها سالكةً مع حماس السياسيو-عسكرية في الداخل. إلا من تسجيلِ وقعِ الفزعةِ الإعلامية بإقرار حماس بخطئها و صِحَةَ موقف سورية. و أيضاً، لماذا؟ ما هو المكسب الذي تنتظره سورية من عودة وجوه حماس لدمشق؟ لا أدري.
نعودُ لصراع المصالح و العقائد. هل علمانية الحكم السوري كانت تختلف عن علمانية الحكم التركي؟ من الصعب القول بالاختلاف ففي البلدين علمانيةٌ و دينٌ فلماذا التجأت حماس لعلمانية تركيا و تركت السورية؟ و إيران التي فتحت لها الأبواب ليست علمانيةً! الحقيقة أن عقيدة المصلحة الحماسية السياسية الخارجية انتصرت للسياسة متغطيةً بالعقيدة عندما اعتقدت ببزوغ المعسكر العقيدي الصحيح و حلوله مكان المعسكر العقيدي الخطأ. و لم يحصل هذا الاستبدال. فتقرر حماس الخارج أن تعود لسورية بالسياسةِ دون العقيدة و قد تُخطأ حماس مرةً ثانية فدمشق قد لا تحتاج في الواقع لهذه السياسة الانتهازية كما تصفها و لا العقيدة التي تأتي بها حماس الخارج طالما أن العقيدة متجذرةً بالحارات السورية و متجسرةً مع غزة الداخل. المصالح الانتهازية في عالم السياسة هو شأن الدول و عندما تتصدر الحركات الدينية في عالم السياسة فهي لن تستطيع إلا أن تكون انتهازية و مصلحية و هكذا تبدو حماس الخارج. و الله أعلم.