في ٢٤ شباط ٢٠٢٢ وهو التاريخ الذي بدأت القوات الروسية غزوها لأوكرانيا لم يخطر ببال أحد أن الزمن الفاصل بين بداية ونهاية هذا الغزو لن يتجاوز الايام وربما أسابيع على أبعد تقدير، لذلك تراوحت تقديرات الكثير من المتابعين والمحللين بين خيارات قليلة فإما أن تحتل روسيا أوكرانيا وتسقط الحكم فيها، وتحقق انتصاراً ساحقاً، وتكون بذلك قد غيرت قواعد النظام الدولي السائد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتضع الغرب والعالم أمام حقيقة ساطعة، أن روسيا الإمبراطورية قد عادت لتفرض شروطها من جديد على معادلات القوة في أوروبا والعالم، وهذا الحال كان من الممكن ان يقود العالم الى واحد من السيناريوهات التالية، فإما أن يقبل الغرب والولايات المتحدة بهذا الواقع ويتحمل الإذلال الذي ستلحقه روسيا بالقارة العجوز ودول عديدة، وإما أن يواجه الغرب روسيا ويحاول هزيمتها، طبعاً ستكون نتيجة ذلك حرب عالمية ستبقي القليل من الحضارة البشرية، ومن حسن الحظ ان روسيا انكفأت وتراجعت بسرعة بسبب بسالة الأوكرانين والدعم الغربي الذي تلقوه ترافق هذا التراجع بتغيير قواعد النصر الروسي، فقد باتت تقتصر على الشرق ومنطقة الدونباس تحديداً والتي ستتحول الى ارضٍ روسية حسب عُرف الرئيس بوتين، أما في عرف الأوكرانين فهذه الأرض ستبقى أوكرانية الى الأبد ودون ذلك الموت، هذه المعادلة ادخلت الطرفين ومعهما العالم في مستنقع الحرب طويلة الأمد حيث يُستنزف فيها الطرفين فكلاهما يقتل الآخر بدون هوادة ولا حلول وسط تلوح في الأفق، فالغرب لا يريد ان يفلت الرئيس بوتين بفعلته، وبوتين لا يعترف بكلمة الهزيمة مهما كلفت الحرب من خسائر.
لكن المشكلة ان قائمة الغارقين في مستنقع هذه الحرب لم ولن يقتصر على هاتين الدولتين بل تعداهما ليطال كل قرية على مستوى العالم، إذ دفع فقراء العالم ثمن هذه الحرب من قوتهم ومؤونتهم فالغذاء المتدفق من الدولتين أصابته نيران الحرب بالعطب، إما بسبب انقطاع الإمدادات من القمح والذرة لصعوبة حصادها، أو بسبب صعوبة نقلها عبر ممرات آمنة بعد أن أُغلق المنفذ الرئيس عبر البحر الأسود حيث تدور رحى الحرب، هذا الواقع يهدد مئات الملايين من البشر بالجوع والمنطقة العربية حيث تعتمد في جُل إمداداتها على هاتين الدولتين ستكون أحد أهم المتأثرين، طبعاً الأمر لن يقتصر على الاحساس بالجوع بل يتعداه الى موجات من الغضب الشعبي تهدد بنسف الاستقرار الهش في تلك الدول بالذات بعد جائحة كورونا وقبلها تداعيات الربيع العربي، يفاقم هذا الوضع أزمة الطاقة التي خلفتها هذه الحرب نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا وهذه بدورها تلقي بظلالها القاتمة على شعوب العالم والتي عبرت عن نفسها بحالات انفجارية من التضخم الذي يكاد يجهز على ما تبقى من إمكانيات متواضعة لشعوب العالم فإرتفاع أسعار الطاقة قاد معه موجة واسعة من الارتفاعات على السلع الاساسية مما يهدد بموجة ركود تُذهب ما تبقى من آمال في استقرار عالمي.
اما على صعيد الأمم المتأثرة فربما يعتقد البعض أن هناك رابحا كبيرا وخاسرون كبار لكن الواقع يشير إلى أن الأغلب هم خاسرون بمستويات متعددة فأروبا التي قد يبدو للوهلة الأولى أنها توحدت وأضافت لها أعضاء جدد سواء على مستوى الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو إلا أن الواقع يشير الى أنها خسرت أكثر مما يُعتقد، فحالة القلق التي أوجدها الغزو الروسي نقلت العالم الأوروبي من حالة الاسترخاء والرفاه إلى الاستعداد للحرب والمواجهة، وهذا سيغير المفاهيم في القارة، وهذه خسارة استراتيجية انهت ٧٥ عاماً من الرخاء تلت الحرب الكونية الثانية، أما الولايات المتحدة فربما تكون اكبر الخاسرين فهي على شفا فقدان مكانتها كقطب عالمي وزعامتها مهددة بقوى صاعدة قد تزيحها وتتربع مكانها، أما الصين والتي تستخدم الترقب والصبر كوسيلة للحصول على المكاسب فهي تنظر بعين بصيرة الى حالة الاستنزاف التي سيدخل فيها خصماها الولايات المتحدة والغرب من جهة وروسيا من جهة اخرى، على أمل ان يخسر كلاهما مما يدفعها الى الواجهة العالمية لكنها على المدى القريب ليست رابحة وإن بدى ذلك، فمشروع الحزام والطريق مهدد بالفشل في حال استمرت الحرب وهي تخشى في نفس الوقت ان تدشن الولايات المتحدة صراعاً في منطقة آسيا يستنزف قواها ويحرمها من فرصة الاستقرار، اما المنطقة العربية فهي قد تستفيد مؤقتاً من طفرة الاسعار النفطية وهذا ينطبق على بعض الدول ولكن ازمة الغذاء والتضخم ستحرق أي فوائد متأتية من هذا الجانب، إذن فالحرب في أوكرانيا وإن كانت تدور رحاها بين دولتين لكن نتائجها لم ولن تقف هناك بل انها تكاد تغرق العالم بتداعيات اكثر خطورة مما يعتقد الكثيرون.
كل ذلك يقود الى القناعة بأن الحرب الدائر رحاها على أرض أوكرانيا لم ولن تتوقف هناك فهي تهدد الجميع بالغوص عميقاً في وحلها وربما الغرق فيها.
الرأي