كل صيف، حيث تتناسل مخرجات التعليم وتدفع بعشرات الآلاف من طلبات التوظيف إلى خزائن ملفات ديوان الخدمة، يتسع خرق البطالة على الراتق، ولا تجد الحكومات ترياقا لهذا الداء سوى الإستمرار بسياسات الإلهاء وتضميد الجراح الملتهبة على عَفَنْ، لنجد أنفسنا يوما ما أمام مأزق حقيقي ومعضلة عصيبة لها كلف باهظة ربما لا يحتملها وضعنا الإقتصادي والإجتماعي القلق، ولات حين مناص.
كل يوم، تزداد الهوّة بين مخرجات التعليم السنوي، وبين اتجاهات الشباب الاردني نحو الوظائف الحكومية المحدودة والمتخمة، اتساعا وتمددا.
إنه نخرٌ في الساق لا يصلحه سقاية ولا مبيد. دون شك، فإن لارتفاع نسب البطالة أسباب ومبررات، غير أنها ليست أسباب مستحيلة الحلول ولا مستحيلة التطبيق إذا ما اقترنت بإرادة حقيقية وحصافة ومعرفة في سبل تنفيذ الحلول.
لا تخلو خطابات الحكومات دوما، من خطوات كفاح البطالة ومن خطط مزعومة لعلاجها، غير أن الواقع لا يوافق هذه الخطابات، حيث تتفاقم النسب لمستويات كارثية كل عام.
كنت وزيرا للعمل. لا أسوق هذه المقدمات إغاظة ولا تنصّلا. لقد واجهنا آنذاك، معركة قاسية نازلنا فيها ظروفا لا تقل قسوة عن ظروف هذه المرحلة بين عزوف الشباب عن المهن التي كان مئات الآلاف من العمالة الوافدة العربية والأجنبية على استعداد لإشغالها، وبين تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين على سوق العمل المنظم وغير المنظم.
لقد عملنا في منتصف اختلالات متراكمة وواسعة في سوق العمل، وفي وسط حملات تشويه ونماذج إقصاء وتندر، لكننا حصدنا إنخفاضا واضحا في معدلات البطالة وفق الأرقام الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة آنذاك.
أذكر ذلك، في الوقت الذي أصرخ فيه أن علينا أن نعي جيدا حجم مستوى الأزمة اللأواء وحجم عواقبها التي هي خارج إمكانياتنا وخارج خطاباتنا الإنشائية التي لا تفعل شيئا.
ومع الإعتذار لكل خطيب مفوّه في هذا السياق، فإن البطالة ما تزال يتيمة لا أب لها ولا أم، لا راعي ولا مسؤول، والقول بأن وزارة العمل هي أمها وأبيها، هو قول من يريد أن يتخلى عن واجبه وأن يريح كاهله من الحمل ومن الثقل، وذاك وأيم الله، ما أنزلنا هذه المنزلة من ارتفاعات هائلة في أعداد البطالة ونسبها المفزعة.
اليوم لا يشبه البارحة على الإطلاق. ما كان متاحا في السنوات الماضية لم يعد ممكنا اليوم، وكذا، فإن حلول البطالة التي أتت بنتائج في الأعوام السابقة، هي اليوم أحوج ما تكون للتفكير خارج الصندوق قولا وفعلا، على أن يكون الجهد وطنيا جامعا غير مسبوق تنهض به كل مؤسسات الدولة على الإطلاق وتتهيأ له استراتيجيات وخطط عمل جديدة ومختلفة على الفور.
وأول قواعد هذه الاستراتيجيات، هو إسناد المهمة لكل المعنيين، ووقف حصرها بوزارة العمل التي تنهض بواجب تنظيم السوق، والإعتراف بأنه لا توجد جهة بعينها في الحكومة مسؤولة بالمفهوم العام عن حل مشكلة البطالة، وأنه يجب توجيه جهد وزارة العمل نحو الإشتباك الإيجابي مع بقية الوزارات في وضع برامج تهدف للتخفيف من البطالة في كل قطاع على حدة.
توضيحا لهذا الاشتباك، فإن وزارة الصحة مثلا غير معنية بالبطالة في المفهوم الإداري! لكنها في الحقيقة معنية تماما بالبطالة في القطاع الطبي، ولو وضعت في صلب مهامها إحاطة كاملة بكل مخرجات المؤسسات التعليمية في القطاع الصحي ومدخلاته للسوق الأردني والإقليمي، لكان سهلا عليها تأمين فرص عمل في الداخل والخارج، ولتوزعت الأحمال التي تنوء بها وزارة العمل، بشكل يسهل فيه السيطرة على الأرقام المهولة من المتعطلين من العمل والذي تكافح في إجابات أسئلته وزارة العمل وحدها.
نحن بحاجة لثورة بيضاء في جهود التخفيف من البطالة. نحن بحاجة إلى قرار سريع من الحكومة يؤمن تنسيقا أفقيا بين الوزارات والمؤسسات ويسند لكل واحدة منها مسؤولية البطالة في قطاعها التي تختص به، بموازاة استمرار وزارة العمل ووحداتها بجهود تنظيم السوق وإحكام القبضة على العمالة الوافدة غير المرخصة، وتدريب الأردنيين ليكونوا منافسين للعمالة المرخصة المؤهلة.
أمّا القول بأن ثقافة العيب ما تزال عائقا أمام انخراط الأردنيين في المهن التي تشغلها العمالة الوافدة، فتغيير الثقافة في هذا الوضع الإقتصادي المتلاطم، سهل ومتاح، يمكن لأجهزة الدولة المختلفة العمل على تكريسه في عقول الشباب، شريطة أن يُقابل هذا الجهد، بحد أدنى معقول للأجور، وفي البال تفاصيل كثيرة لا تتسع هذه المساحة لها