من المبكر الحكم بأن العالم يتجه نحو الركود التضخمي، فقد قام مجلس الإحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) بتاريخ 15-6-2022 برفع الفائدةعلى الدولار بمقدار 75 نقطة أساس (0.75%) وهذه المرة الثالثة التي يتم بها الرفع هذا العام وأعلى نسبة رفع منذ عام 1994، ومن المتوقع أن يكون هناك 3 رفعات أخرى خلال هذا العام لتصل نسبة الفائدة المئوية على الدولار 4%، كل ذلك لكبح جماح التضخم العالمي الذي سجل في الولايات المتحدة الأميركية الشهر الماضي 8.6% وهي أعلى من المتوقع رغم الرفع السابق للفائدة ب 50 نقطة أساس في سابقة لم تشهدها منذ أربعة عقود, فزيادة سعر الفائدة تزيد الطلب على سندات الخزانة الأميركية بسبب العوائد المرتفعة على الدولار مما يزيد الضغط على سلة العملات الأخرى ويؤدي إلى إنخفاضها مقابل الدولار وزيادة الإحتياطي النقدي العالمي من الدولار والذي بلغ 59% من أصل 12 ترليونا من العملات الأجنبية التي تحتفظ بها البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم في نهاية العام 2021.
إن السبب المباشر لذلك التضخم هو جائحة كورونا حيث قامت الولايات المتحدة الأميركية وهي المصنفة بأقوى اقتصاد بالعالم بضخ سيولة نقدية للمواطنين كمساعدات قدرت بألف وخمسماية مليار دولار ومعظم المواطنين قاموا بإدخار ما حصلوا عليه من مبالغ وذلك بسبب الإغلاقات وقت الجائحة،والسبب الآخر لفقدان البعض أو الخشية من فقدان الوظيفة, وما أن شارفت الجائحة على الإنتهاء ببداية هذا العام ودخول الحرب الروسية – الأوكرانية حتى تعمق هذا التضخم مع تعطل بسلاسل الإمداد والإغلاقات في الصين بسبب الجائحة والإرتفاع الحاد بأسعار النفط وإرتفاع الشحن اللوجستي، كل ذلك أدى إلى ارتفاع حاد في الأسعار مع توفر السيولة لدى المستهلكين من المواطنين.
إن الخوف العالمي بدأ يظهر بعدم القدرة على السيطرة على هذا التضخم من خلال السياسات النقدية ودخول العالم بما يُعرف بالركود التضخمي ويُعرّف بإختصار هو حالة نمو إقتصادي ضعيف وبطالة عالية (أي ركود اقتصادي يرافقه تضخم), حيث تحدث هذه الحالة عندما لا يكون هناك نمو في الإقتصاد مع إرتفاع في الأسعار، وقد ظهر مصطلح الركود التضخمي (والذي يعبّر عن حالة الركود والتضخم) لأول مرة خلال فترة التضخم والبطالة في المملكة المتحدة,حيث شهدت المملكة المتحدة هذه الحالة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي, وفشل صنّاع السياسة في المملكة المتحدة في الإعتراف بالدور الأساسي للسياسة النقدية في السيطرة على التضخم, وحاولوا بدلاً من ذلك إستخدام السياسات والأجهزة غير النقدية للإستجابة للأزمة الإقتصادية, وقد أجرى صنّاع السياسات تقديرات غير دقيقة لدرجة الطلب في الإقتصاد، ما ساهم في إرتفاع التضخم في المملكة المتحدة بشكل كبير خلال الفترة الماضية.
هناك سببان رئيسيان لحدوث تضخم الركود: أولاً: يمكن أن ينتج تضخم الركود عندما يواجه الإقتصاد صدمة العرض، مثل الزيادة السريعة في أسعار النفط الذي يرفع الأسعار, في نفس الوقت الذي يبطئ فيه النمو الإقتصادي ويجعل الإنتاج أكثر تكلفة وأقل ربحية. ثانيًا: يمكن للحكومات أن تتسبب في حدوث ركود تضخمي إقتصادي إذا ما سلكت سياسات تضر بالصناعة والأنشطة الإقتصادية بينما يزيد المعروض النقدي بسرعة كبيرة, ربما يحدث هذان العاملان في وقت واحد لأن السياسات التي تبطئ النمو الإقتصادي لا تسبب عادة التضخم، والسياسات التي تسبب التضخم لا تؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي.
وما يزيد الأمر سوءاً أن يتبع الركود كساداً، الذي يوقع الكثيرين في خطأ شائع ألا وهو عدم التفرقة بين الكساد والركود الإقتصادي نظراً لتشابهما في المعنى وتأثيرهما على الإقتصاد العام للدولة, فالركود الإقتصادي يعني مرور الدولة بربعين متتاليين أي ستة أشهر ينخفض فيها الناتج المحلي الإجمالي، ومن الممكن القول أن الركود هو تراجع قوي في النشاط الإقتصادي للدولة والذي يستمر لعدة أشهر بشكل متتالي.
يرى العديد من الاقتصاديين أن مرور الدولة بمرحلة ركود أمر طبيعي وجزء من الدورة الإقتصادية, وعادة ما يحدث الركود نتيجة وجود عدد كبير من المعروض من السلع والخدمات مقابل تراجع مستويات الطلب، أي أن معدلات الإنتاج تفوق معدلات الاستهلاك وبالتالي يدفع الإقتصاد إلى الإنزلاق إلى مرحلة الركود، مما يؤثر بالسلب على دخل الأسر وتراجع الأسواق المالية في الدولة. وعلى الجانب الآخر، الكساد هو بإختصار عبارة عن كارثة إقتصادية، حيث ينخفض فيه الناتج المحلي الإجمالي بشكل حاد ويعتبر أكثر ضرراً من الركود على الإقتصاد بوجه عام, ويحدث الكساد أيضاًعندما يتخطى الإنتاج مستويات الإستهلاك لكن يكون الفارق بينهما كبيراً جدًا،وينتج عن الكساد إرتفاع معدلات البطالة بشكل كبيرمع تراجع حاد في الأجور, ومثال عليه الكساد الكبير الذي حدث عام 1930 والذي إستمر لعقد من الزمن, أي بمعنى أدق يعتبر الكساد مرحلة متقدمة من الركود، فإذا لم تتخذ الدولة إجراءات فعالة للحد من الركود فقد ينتهي بها المطاف بالكساد.
فالتداعيات السلبية الناجمة عن الركود والكساد بأن كلاً منهما يؤدي إلى تدهور النشاط الإقتصادي وتراجع الناتج المحلي الإجمالي وإرتفاع مستويات المعروض بشكل كبير, بالإضافة إلى إرتفاع معدلات البطالة وتراجع معدلات التوظيف والأجور وإغلاق الكثير من الشركات بعد إفلاسها, وأخيراً تراجع أسعار الأسهم بشكل كبيروتراجع أرباح الشركات وتراجع في أسعار العملات الرقمية، ويؤدي إلى صعود مفاجىء بأسعار الذهب العالمية نظراً لضبابية الإقتصاد العالمي.
نحن في الأردن نعّول على ثقافة ووعي المواطن الأردني في التعامل مع هذا الوضع لتجنب الإرتفاع الحاد في الأسعار الذي من شأنه أن يغيّر المعادلة مما يقودنا إلى تلك المراحل السابقة, لنشرح ذلك ببساطة فقد وضع الإقتصادي «هو ديكسون» ثلاثة خصائص أساسية للتوازن الإقتصادي: خاصية التوازن الأولى: إن سلوك المواطنين ثابت. خاصية التوازن الثانية: لا يوجد أي مواطن لديه حافز لتغيير سلوكه. خاصية التوازن الثالثة: التوازن هو نتيجة لعملية ديناميكية تؤدي إلى الإستقرار.
فمثال على ذلك في التوازن التنافسي فإن العرض يساوي الطلب في السوق الأردني فخاصية التوازن الأولى متحقّقة لأن المبلغ المعروض يساوي المبلغ المطلوب بسعر التوازن، كما أن خاصية التوازن الثانية متحقّقة, يُختار الطلب لزيادة المنفعة إلى الحد الأقصى نظراً لسعر السوق, ولا يوجد أي شخص في جانب الطلب لديه أي حافز أو محرك للطلب أكثر أو أقل بالسعر السائد، على نحو مماثل، يحدد التجار العرض لزيادة أرباحهم بأسعار السوق, ولن يرغب أي تاجر في عرض أي شيء بأكثر أو أقل من سعر التوازن, على هذا فإن المواطنين على جانب الطلب أو جانب العرض لن يجدوا أي حافز لتغيير تصرفاتهم وسلوكهم. ولمعرفة ما إذا كانت خاصية التوازن الثالثة متحقّقة أو لا, ماذا يحدث عندما يكون السعر أعلى من التوازن؟ في هذه الحالة يكون هناك فائض في العرض، بحيث تفوق الكمية المعروضة ما هو مطلوب، وهذا من شأنه أن يفرض ضغوطًا تدفع الأسعار إلى الإنخفاض لحملها على العودة إلى التوازن. وفي الجانب الآخرعندما يكون السعر أدنى من نقطة التوازن، هناك نقص في العرض يؤدي إلى زيادة في الأسعار وعودتها إلى التوازن, فليست كل التوازنات مستقرة وتتحقق فيها خاصية التوازن الثالثة. من الممكن أن يكون هناك توازنات تنافسية غير مستقرة, ولكن إذا كان التوازن غير مستقر، فإنه يثير السؤال حول كيفية الوصول إليه وتحقيق الإستقرار, يعني عدم تحقيق خاصية التوازن الثالثة أن السوق سيبقى غير مستقر إذا بدأ من هذا الوضع، حتى لو تحققت الخاصيتين الأولى والثانية وستبقى الإسعار بإرتفاع.
لكن هناك سبب وجيه يحقق التوازن هذا بطريقة غير مباشرة, رفع أسعار الفائدة المتكرر سيتأثر به سلباً في الإنفاق 90% من المواطنين في الأردن وهم الذين يشكلون القوة الشرائية والخدماتية التي تحرك الإقتصاد بنسبة 70%, لأن 10% من المواطنين الباقين لديهم ما يكفي للصرف ولا يتأثرون برفع الأسعار وليس عليهم ديون مستحقة على البنوك وسيكون لديهم إغراء بإيداع مدخراتهم بودائع بنكية نظراً لسعر الفوائد الجديدة المغرية. أما بقية المواطنين الذين يشكلون 90% من المجتمع فهولاء الذين يكون إنفاقهم متوازن ومعظمهم عليه قروض بنكية, فما بالك إذا زادت فائدة الإقتراض عليهم، إن ذلك سيقودهم إلى تعويض فرق الفائدة البنكية بتقليل القوة الشرائية من الأسواق والخدمات التي يحصلون عليها مما يؤدي إلى زيادة المعروض في الأسواق وبالتالي يقود إلى كبح جماح إرتفاع الأسعار.
لكن الخاسر الوحيد في هذه الحالة هي الحكومة, لأن جزءا كبيرا من الموازنة يعتمد على الضرائب الُمحصلة على السلع والخدمات, والتي بطبيعة الحال ستقل عن المتوقع مع كل زيادة بأسعار الفائدة، إضافة إلى زيادة خدمة الدين نتيجة المديونية الكبيرة, ناهيك عن المستوردات الأساسية من السلع الغذائية الإستراتيجية والتي تُقدر بأربعة مليارات دولار سنوية يضاف إليها فاتورة المشتقات النفطية المستوردة.
الحل الممكن لخروج الحكومة من هذا المأزق يكون بالتشاركية الكاملة بين الحكومة والقطاع الخاص، والتي يجب أن تتم بطريقة إحترافية ومهنية بعيدة عن تغول أي طرف على الآخر, وتشجيع الاستثمار بكل أنواعه سواءً كان داخلياً أو خارجياً وتسهيل إجراءاته مهما كان الثمن, ومقايضة القروض مع الدول الدائنة لتحويلها إلى مشاريع استثمارية طويلة الأجل على مبدأ BOT، والنظر في الضرائب المفروضة ليكون هناك نقطة اتزان تحافظ على نشاط السوق لتحصل الحكومة الإيرادات المطلوبة والمتوقعة حسب الموازنات التي تُعد مسبقاً, ونشر التوعية بين المواطنين لتبني فكرة الترشيد الاستهلاكي والتخلي عن العادات القديمة المتبعة في الأفراح والأتراح واختيار ذوي الكفاءات والخبرات في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة لشغر المناصب في الوزارات والمؤسسات الحكومية للوصول بالإقتصاد إلى بر الأمان، ومواكبة التطور العالمي للتكنولوجيا وتطبيقاتها في الزراعة والصناعة، والتركيز على الشركات التكنولوجية التي تتبنى الأفكار الإبداعية ذات القيمة المضافة والتي تلعب دوراً كبيراً في جميع مناحي الحياة, وخصوصاً الاقتصادية لتحقيق النمو السنوي المطلوب الذي من شأنه تقليل البطالة وسداد المديونية.
(الرأي)