بالعودة إلى التاريخ، فإن مرور العالم في تحديات اقتصادية كبيرة منحه خبرة في إدارتها ومرونة أكبر في العمل للحيلولة دون تحولها إلى أزمات، أو في أسوأ الحالات التخفيف من حدتها.
العالم نجح في ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، واستطاع، إلى حد ما، أن يرمم ما خلفته من أضرار اقتصادية. وفي الأزمة الاقتصادية العالمية العام 2008، نجح في تطويق تداعياتها، والتخفيف من آثارها، لكي ينطلق الاقتصاد العالمي لتحقيق مكتسبات من جديد.
اليوم، نواجه كارثة اقتصادية عالمية، أسبابها عديدة، بدءا من كورونا، وليس انتهاء بالحرب الروسية الأوكرانية التي لم تكشف بعد عن حجم الألم الذي ستسببه لدول العالم، بينما جميع المؤشرات تقول إن المستقبل ليس مبشرا في حال استمرت حالة الغليان بين أطراف النزاع على النحو الذي تسير عليه اليوم، خصوصا أن العالم بات يواجه شحا في الأساسيات، كنقص الغذاء والطاقة، علاوة على الارتفاع الفاحش في الأسعار، وهي أمور يمكن أن تؤدي إلى انتشار المجاعات لدى كثير من الدول الفقيرة.
في الأثناء، نرى الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب يسعون لإنهاك روسيا اقتصاديا، فيما الأخيرة، ما تزال ممسكة بزمام الأمور حتى الآن، خصوصا في مجال الطاقة التي تراهن عليها للخروج شبه منتصرة على أقل تقدير عبر الضغط على أوروبا، والتي لا نراها موحدة سوى في الخطاب المعلن، بينما على أرض الواقع، لدى كل دولة أولوياتها، والتي غالبا ما تقودها إلى “التصالح” مع الفعل الروسي.
في أوكرانيا، أحد الموردين الرئيسيين للقمح عالميا، تعطلت خطوط الإمداد، وحتى الإنتاج تأثر كثيرا بالحرب الدائرة. الارتدادات تأثرت بها غالبية الدول. خسائر الدول الغنية واضحة للعيان، فهي تشهد معدلات تضخم غير مسبوقة، ودعوات للتقشف خوفا مما هو قادم. ولكن الفقراء هم الأشد تأثرا بالتأكيد، ما يحيلنا إلى التفكير في أننا قد نكون على شفا كارثة قادمة.
“الجنون” هي المفردة المناسبة التي يمكن إطلاقها على ما يشهده العالم، إذ تتراجع أهمية التحالفات البينية لمصلحة الدولة الوطنية. ورغم أن المصالح قادت دائما السياسات الدولية، إلا أنها احتكمت في السابق لأخلاقيات واضحة، خصوصا المسؤولية للدول الغنية تجاه الدول الفقيرة، وإسهامها في التنمية وبناء السلم العالمي.
اليوم، يتراجع كل هذا الخطاب، وتلوذ الدول بحدودها، وهو يتناقض بوضوح مع حالة الوحدة والتضامن الإنسانية التي عاشها العالم وقت جائحة كورونا. تلك الجائحة علمتنا دروسا ينبغي أن نستفيد منها في التعامل مع كل ما يهدد الإنسانية، فما كنا لنتجاوزها بدون حالة التضامن العالمية تلك. لقد توحد العالم من أجل مكافحة الفيروس؛ كل وفق إمكانياته وقدراته، فبعض الدول سابقت الزمن لاختراع علاج أو مطعوم له، وأخرى عملت على ضمان استمرارية عمل خطوط الإمداد للغذاء، في وقت كان العالم أجمع يعاني من حظر لا يسمح فيه لأحد بالتحرك.
لكن حالة الجنون التي أصابت العالم في الوقت الراهن لا علاج منها، خصوصا مع حرص الدول الغنية على تأمين مصالحها الذاتية مهما كلف الأمر، ومهما بلغ حجم الضرر الذي سيلحق بالآخرين، وهذا بلا شك هو الوجه القبيح لطبيعة العلاقات الدولية اليوم ومستقبلا.
في الأردن، أنهك المواطن، وأنهكت الدولة أيضا، وبعيدا عن مسعى البحث عمن يتحمل المسؤولية، فإن الأهم اليوم هو السير معا من أجل تجاوز هذه المرحلة التي تتحكم فيها دول استوطنها الجنون، وبات من المؤكد أنه ليس هناك من أحد سينقذ العالم مما هو قادم.
إذن، لننقذ أنفسنا، ونفكر في أسلم الطرق التي توصلنا إلى طريق النجاة، خصوصا أنه ما من أحد سيعبد طريقنا بالزهور.. لأننا وحدنا، ووحدنا من يتوجب عليه إيجاد العلاج!
الغد