تبيع الكعك عند باب العمود ، وفي عربتها زعتر ، وعلى يدها حناء ، وعلى وجهها نور ، وفي يمينها حجر فيروز عانق اصبعها فزاد بعناقه سماوية ، فوق البهاء.
تأتي الحمامة البرية ، عند آذان الفجر كل يوم ، تحوم فوق قبة المسجد الاقصى ، وتارة فوق قبة مسجد الصخرة ، تحوم وتحوم.تحل عند شباك بائعة الكعك.
هديلها كقلب عشق للتو.تصحو بائعة الكعك على صوت الهديل.تتوضأ لاجل الفجر.تتوضأ.ولاتتيمم ، ففي القدس لايصح التيمم.
ركعتان في العشق لايصح وضؤوهما الا بالهديل ، وفي رواية اخرى لايصح وضؤوهما الا بالندى.
يغسل وجه الطفلة الصبح.يشكرها الصبح لانها غسلت وجهه بطلتها.ندى فوق الندى.تتذكر والدها الشهيد.تتذكر انها رأته في المنام يهديها باقة زعتر بري ورغيف خبز ساخن خرج للتو من الطابون وزيت عصره للتوه بيديه.
يالهذه الرائحة ، هل تذكرونها حقا ، ام انستكم الدنيا رائحة الزعتر والطابون والزيت الاخضر العاشق والمعشوق،.
مازالت رائحة الزعتر البري في الغرفة ، وهديل الحمامة تسبيح يسمعه "سليمان" فلا يقول "نكرّوا عرشها" لان الحمامة لم تعلن العصيان ، ولم ترسل الهدايا.
صوت العربة الثقيل في البلدة القديمة في القدس.تسير عبر الازقة الحجرية.حجارة قديمة عمرها الاف السنين.تريد ان تذهب الى المخبز.تأخذ حصتها من الكعك ، ومن هناك الى باب العمود.
سيف صلاح الدين الايوبي ، محجوز هنا ، عند "شلومو"الحداد اليهودي يريد صهره وتحويله الى عملات نقدية.
لن يبقى السيف هنا طويلا ، همست بائعة الكعك في سرها ، وهي ترمق "شلومو" الوافد وهو ينظر اليها بغضب ، وقد احمّرت عيناه.
تقف لتبيع الكعك.تتذكر انها لم تشتر الزعتر من عند "الخليلي" الذي بات من اهل البلدة القديمة.
تأسف.تفتح عربتها لبيع الكعك.تشعر بالذهول.من اين جاء الزعتر البري ، وانا لم اشتره.تتذكر رؤيا والدها الشهيد.هل جاء ليلا ووضع الزعتر في عربتها ، رائحته جمعت الحمام البري كله في القدس.
بائعة الكعك قطفت وريقاته ، ومدت كفها الى الحمام الطائر ، فنزل واحداً تلو الاخر يلتقط ورق الزعتر ، من كفها.
كل حمامة برية التقطت ورقة زعتر.صارت رجلا.كل رجل صار دماً.وكل دم صارقدراً ، وكل قدر بات نوراً من الارض الى السماء.الشهادة تستسقي الشهادة.
بائعة الكعك لاتبيع الاحلام.تأتي بنات سلوان وصور باهر وام طوبا والمكبر والسواحرة والشيخ جراح وقرى القدس لشراء الكعك.
بينهم طفلة من خان يونس.عمرها من ذات عمر الطفلات الصغيرات.وجهها وضاء ومعها رفيقتها من عكا.لاتبيع الكعك لهن.تقدمه دون ثمن.
تقف الطفلات الثلاثة.عند باب العمود.وعلى كتف كل واحدة وشم ورسم ونبوءة ، ويهودي يبحث عن الوشم فلايجده.
في كف كل واحدة منهن حناء وسر مغموس بالنور.سر لاتراه العيون.
تلمع قبة الاقصى.يمتد اللون الازرق الى السماء الزرقاء.نور سماوي بين الارض والسماء.يمتد النور ، وبائعة الكعك ترى مالايراه الاخرون.تدمع عيناها ، يخفق قلبها وترى كل شهداء فلسطين ينزلون للصلاة في المسجد في يوم العيد الكبير.
تبحث عن والدها وسط الملايين.يأتيها عند باب العمود.يبتسم ويقول:مازلت هنا.هل اطعمت الزعتر للحمام البري،؟؟
تفيض عيناها بالدمع.تلقي رأسها على صدر والدها.تخبئ رأسها تحت كتفها كحمامة فرت من صائد لا يرحم.ترتجف. فيمسح بيده على رأسها ، ويمسك بيمينها ويدور بها في عالم اخر.
يمسك يمينها.يقبّل باطن كفها.يقول لها:انا باقون مابقي الزعتر والزيتون.يعود الحمام للهديل.في الافق غيم اسود.يليه غيم ابيض.يليه غيم اخضر.
كل طفلة من الطفلات الثلاثة تزرع فارس الغيمة على سرج القدر ، فيأتي ليقود الغيم ، وليعيد اسراب الحمام البري الى اعشاشه التي كان قد هجرها ، ليصير برياً في هذه الدنيا.
يؤذن المؤذن.صلاة فجر جديدة.رائحة الزعتر البري في البلدة القديمة.وفي كل القدس.والحمام البري يحوم ويحوم ، وبائعة الكعك تعد عربتها ليوم جديد ، وشلومو يتميز قهراً وغيظاً منها ، ووشم سري على كتفها ، يحمل نبوءة للقدس ، لايعرفها احد.
يقول المؤذن بعد الله اكبر:انا باقون مابقي الزعتر والزيتون.
mtair@addustour.com.jo
الدستور