منذ تأسست الأنروا حملت بذرة العون الإنساني المُلِّحْ والتمكين التنموي "غوث و تشغيل"، كان ويستمرُ جِسراً يعبره ما يقرب من ٦ ملايين لاجئ فلسطيني في فلسطين والأردن ولبنان و سوريا، يعبرونه بالمعونات الإنسانية المعتادة وبالتعليم والتدريب، إنها المنظمة الأممية الوحيدة التي تحمل تخصيصاً لفئةٍ محددة، هم الفلسطينيين.
ولا اختلاف أن مهمتها التي بدأت منذ سبعين عاماً ساعدت وأعانت وأبقت اللاجئ موسوماً بالصفة التي تربطه بفلسطين، ولأنها صفةٌ مؤقتةٌ فلا بد لأي لاجئٍ أن يواجهَ مصيراً من ثلاثة: العودة لبلده أو الاندماج ببلد اللجوء أو البقاء لاجئاً بمخيماتٍ تتحول مع السنوات الطويلة لمُدِنٍ من نوعٍ ما، وهذا الأخير هو الذي حصل مع الفلسطينيين اللاجئين الذين استوطنوا المخيمات التي تحولت لامتدادات المدن في البلاد التي لجأوا لها حول فلسطين لكنهم بقوا لاجئين، وفي هذا نجحت الأنروا في مهمتها بالتعاون مع هذه البلاد، فهي تمد الفلسطينيين بالعون والتشغيل وتُبقيهم لاجئين متعلقين ببلدهم حتى بعد الأربعة وسبعين عاما من النكبة، في حين كان المطلوب تقديم العون والتشغيل المؤقتين ريثما تقوم الدول بإيجاد الحل الدائم لهم، هي نجحت وأخفق العالم ولا يُمكِنُ أن تُسأَلَ الأنروا عن إخفاقها فهي ليست مسؤولةً عن الحل السياسي.
وتواجه الأنروا أزمتها المالية السنوية بشجاعةٍ منقطعة النظير وبمسؤوليةٍ مُشَرِّفة عن عملها المستمر، وهي مثل كل المؤسسات الوطنية والدولية تمر بأزمات تمويل وإدارة وفساد وتعالجها، هذه مسألةٌ لا تخفى على المنظمة ومراقبيها وأجهزة الدول الرقابية، فلا ينبغي تحميل الأنروا هذه الأوزار وهو ما فعلته بعض الدول التي حجبت تمويلها لفترةٍ بانتظار الإصلاح الإداري للأنروا، وهو ما تم ويتم.
إن سلسلةَ المانحين للأنروا طويلةٌ ولا تقتصر على الدول بل تضم القطاع الخاص والأفراد كما منظمات النفع الإنساني العام، ويمكن الاطلاع على القائمة بموقع الأنروا لكن الملاحظ أنه لا يوجد ضمن المانحين العشرة الأول أي مانح عربي، وتأتي الولايات المتحدة على رأس المانحين، كما أنه من الملاحظ عدم وجود ذكر بعض الدول العربية الغنية مع أن القائمة صدرت قبل أيام وتحديدا في ٣١ مايو ٢٠٢٢.
لكن الأزمةَ المالية محاطةٌ برغباتٍ سياسية هدفها الأساسي عند "إسرائيل" هو تذويب الأنروا بتذويب صفة اللاجئين وتوطينهم وبنفي حق عودتهم من خلال الضغط على حيواتهم وإمكاناتهم وعلى الدول المستضيفة لهم والدول المانحة للأنروا، والهدف للفلسطينيين والدول المضيفة وشرفاء العالم إبقاء الأنروا للغوث والتشغيل وميزة الحفاظ على حق اللاجئ الفلسطيني اللجوء من الاحتلال إلى حين العودة، والمعضلة أن أنصار الهدف الأول فيهم المانحون الأسخياء وأصحاب الهدف الثاني هم الأقل منحاً والأكثر حاجةً، ولإبقاء الأنروا عاملةً يجبُ أن يزداد تمويلها من أصحاب الهدف الثاني بما يعادل أصحاب الهدف الأول أو يزيد، وهذا للأسف غير مُتاح، فماذا بقي للأنروا لتفعل؟.
مفوض الأنروا فيليب لازاريني طرح فكرةً ليست غريبةً عن التفكير الأممي وهي توزيع أعمال وأحمال الأنروا على منظمات الأمم المتحدة، هذا يعني التعاقد بين الأنروا وهذه المنظمات لتقديم الخدمات الصحية والغذائية والتعليمية، على سبيل المثال، وهو حاصل بالفعل لكن ضمن صيغِ تعاونٍ برامجية وفي الحالات العادية حين يتوفر التمويل لا بأسَ بهذا التعاقد لأن المُمَوِّل وهي الأنروا ستمسك بالعملية تمويلاً وإشرافاً، لكنها لا تملك التمويل الكافي وهنا ستتحول العلاقة بينها وبين باقي المنظمات لتعاقدٍ يعتمد على التمويل المتاح لهذه المنظمات ورؤاها التي تخضع بالضرورة لمجاميع المانحين الذين يضغطون على الأنروا، وهنا قد يَحْتَمِلُ الأمر أن تختفي مع هذه الضغوط وبالتدريج الصفةَ الأهم للفلسطينيين وهي اللجوء والعودة وتتضاءل فرص الإغاثة والتشغيل لهم مع ضغوط المانحين لاعتبار الفلسطينيين مثلهم مثل أي معتازٍ لمعونة، ومثلما يضغطون على المنظمات ويشترطون في حالاتٍ أخرى سيتضاءلُ الاهتمام والتمويل لهذه الفئة من الناس، ولهذا فمن غيرِ إمساكِ الأنروا بكل الخيوطِ وبالتمويلِ فقد ينفرط عقدها وقد نرى بوادئ هذا التوجه في نهاية العام حين مناقشة الجمعية العامة للتمديد للأنروا، المفوض لازاريني أكد أن العمل مع باقي المنظمات لن يهدد الأنروا وأهدافها ولكن الفلسطينيين يرون عكس ذلك، وبمنتصف هذا الشهر سينعقد مجلس الأنروا الإستشاري وسيكون هذا الموضوع مدار بحث.
فما هو الحل؟ إن الحل هو عند العرب وعند أثرياء الفلسطينيين أولا، وتحمدُ جهود الأردن المتواصلة السعي مع الدول المانحة لتمويل ودعم الأنروا، لكن هذه الجهود تحتاج هي نفسها لدعم، إن الاستثمارات العربية بالمليارات والمؤسف أنها أو بعضها تصب عند "إسرائيل"، كما أن التمويل العربي الطائي الحاتمي للأنروا هو الحل المالي إلى أن نرى حلاً يعيدُ فلسطين حرةً لمواطنيها اللاجئين.
نحن نأسف عندما نقول إن التمويل يتحكم في التوجيه الذي تضطرُ له الأمم المتحدة فالأساس الإنساني للعمل الإغاثي هو انعزاله عن التأثيرات والأهواء والمصالح السياسية للدول، لكن الواقع غير النظرية، من يملك التمويل يمتلك الصوت الأعلى، فكيف عندما يكون صاحب الحق هو الممول الأكبر؟.
الأنروا تبحث عن مليار وستمائة مليون دولار لتمويل الغوث والتشغيل للفلسطينيين اللاجئين في هذا العام، وتقدر الآن أنها حصلت على وعود لا تصل لخمسين بالمئة من هذا الرقم وقد تنساب التبرعات خلال الأشهر القادمة، لكن الأنروا ولعشرة أعوام مضت عانت من عجز ميزانيتها ولا يوجد من تطور يقول خلاف هذا المصير لليوم إلى أن تحرك العرب وإلا فالمصير المحتوم هو تفتيتٌ متدرجٌ لمهام الأنروا، فمن المعيب أن تنهار هذه المنظمة التي استندَ عليها ولا يزال ملايين الفلسطينيين.