لا يُمكن فصل حملة الاستهزاء والاستسخار الشعواء الدارجة في الهند بحقّ الرسول عليه الصلاة والسلام والسيدة عائشة عن سياقات التعدّي السافرة على كلّ ما هو مقدّس ومُبارك في الإسلام، بدءاً من نصوص القرآن الكريم ومروراً بالمسجد الأقصى الشريف الذي تُنتهك حرماتُهُ بشكل مُمنهج، وليس انتهاءً بالتعرّض للصحابة الذين ينالهم ما ينالهم من أنشطة التشنيع واستقطاب الكراهية.
وأنت تمتقع حُزناً وهمّاً وغضباً من هذا الاستهداف العنيف لسيد الخلق محمد، نبي الله الأعظم، تدور في رأسك الأسئلة الصّعبة، وتنهض في مخيّلتك علامات الحَيرة والاستفهام عن سياسات الطعن بكلّ ما له صِلة بهذا الدين، وقلب الحقائق والقناعات، ونشر الإشاعات الزائفة، تصريحاً أو تلميحاً أو رسوماً مسيئة. لكن حينما تعود إلى سِيَر التاريخ في أيام الجاهلية البعيدة تكتشف أن ما يحدث اليوم في جاهلية القرن الحادي والعشرين هو اجترار مقصود لا انقطاع فيه، بيد أنه يأخذ أبعاداً تطهيريةً قاتلة، وحربَ إبادةٍ جماعية، ولعلّ ما تَكشف عنه المشاهد والصور المروّعة القادمة من الهند وبنغلاديش أبلغُ من كلّ ما كُتِبَ ودُوِّنَ في صفحات التاريخ.
في الهند، وغيرها من الدول الساخطة على المسلمين، ليس ما يُحرّك الأحقاد ويُقلّب الضغائن الدفينة هي العواطف المجرّدة والاعتقادات الراسخة في الوجدان الديني، بل السياسةُ الرسمية المستحكمة القائمة على الغلو والتطرّف البشع، ولعلّ أكثر ما يُقلق هنا إضفاء "هالة التقديس" التي تُصاحب كلّ هجمةٍ على مسلمي البلاد الأصليين، وربما هي الحرب الدينية التي يجري إذكاء جذوتها بين حين وآخر.
عموماً، سِجِلّ دلهي حافل بالعنف والفظاعات، وهذا ليس خافياً على أحد في العالمين بسبب السياسة التي يتّبعها الإرهابي رئيس الحكومة ناريندرا مودي نفسه الذي تسلّم الحُكم في العام 2014، وهو بالمناسبة يمثل الحركة القومية الهندوسية المتشدّدة، إذ سجّلت الهند تراجعاً مُخيفاً في التعدّدية والعَلمانية في بلدٍ حَكَمَ الإسلامُ فيه أكثر من 8 قرون وقد تحوّل المسلمون إلى أقليّة بعد انسحاب الاستعمار البريطاني من الهند في العام 1947، إذ انقسمت البلاد إلى دولتين الهند وباكستان ويُقدّر عدد المسلمين في الهند بنحو 200 مليون مسلم.
وفي هذا البلد الذي ظل موئل تعدديةٍ وعَلمانيةٍ عقوداً طوالاً، أخذ يترنّح في ظل حكومة ناريندرا مودي، ويزحف نحو إرهاب الجنس الآخر، حتى إن طوائفَ هندوسيةً بعينها لم تنجُ من سياسة القمع والإذلال، فكيف بالمسلمين؟ خذ مثلاً لا الحصر، ففي العام الماضي تمّ منعُ المسلمين من أداء صلواتهم خارج مساجد مدينة "غورغاون" بحجّة أنه بُني في موقع حرمٍ قديم مخصّص "للإله شيفا"، كما أن المحكمة وافقت على النظر في أحد الطلبات القديمة لتدمير مسجد "شاهي ادجاه" الكبير.
حتى الحجاب لم يَسلَمْ، من سياسة الرئيس الهندوسي المتشدّد، إذ حكمت المحكمة العليا في ولاية "كرناتاكا" بأن الحجاب ليس من أساسيات الإسلام وبالتالي حَظرُهُ في أماكن الدراسة، وطبّقت الحُكم جامعاتٌ ومدارسُ، ولا يقتصر الأمرُ على مظاهر التعبّد وحسب، بل امتد إلى المُواطَنة، وكلّنا يذكر ما جرى في العام 2019 عندما عدّلت الحكومة قانون المواطنة في البلاد مما يسمح لمهاجري الأقليّات الدينية في باكستان وأفغانستان وبنغلاديش بالحصول على الجنسية الهندية، لكنّ القانون استثنى المسلمين بحجّة أنهم ليسوا أقليّات.
ولم تنسَ حكومة مودي أن تتدخل في قضايا الزواج أيضاً، حيث ظهرت مجموعات هندوسية متشدّدة تدّعي إن المسلمين ابتدعوا ما يُسمّى "جهاد الحب" لدفع النساء الهندوسيات إلى اعتناق الإسلام بعد إيمانهن بالحب لتقليص أعداد الهندوس مقابل المسلمين، وأضف إلى ذلك أن مناطقَ معيّنةً تُصنَّف "بالمضطربة" يُمنع فيها تبادل البيع والشراء بين المسلمين والهندوس بدون موافقة الحكومة.
ما تنتهجه الحكومة الهندية ضدّ المسلمين هو نسخة طِبق الأصل عمّا تفعله حكومة الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الشعب الفلسطيني، وثمّة قواسمُ مشتركةٌ وتقاطعٌ كبيرٌ في سياسات الإذلال والتعذيب اليومي، وآخرها ما أقدمت عليه السلطات أمس بهدم منازل مسلمين تتهمهم بإثارة "أحداث الشغب" التي جاءت عقب التصريحات المسيئة للنبي، وعقب هدمها لعدد من المنازل، اصدرت ولاية أوتار براديش إنذارات بهدم عدد آخر من المنازل وطالبت أصحاباها بإخلائها، تماما لما يقوم بها الاحتلال في فلسطينيين.