مجتمع النَوَر من الزاوية العرارية
المحامي محمد مروان التل
08-06-2022 09:04 AM
مصطفى وهبي التل و الذي لقب نفسه بعرار الشاعر المتمرد الثائر ضد الظلم ، رفيق الضعفاء خصم الأقوياء كرس حياته للدفاع عن المهمشين و انتصر لهم بسلوكه و شعره ، جابه الاستعمار بقلمه و حذر من مغبة بلفور و وعده المشؤوم مبكرا عندما قال قصيدته الخالدة في مطلع الثلاثينات من القرن المنصرم مناجيا ربه و متسائلا عن مصيره اذا ما نَفَذ وعد بلفور فقال ” يا رب، إن «بلفور» أنفذ وعـده..كم مسلم يبقى وكم نصراني؟!..وكيان مسجد قريتي من ذا الذي..يبقـي عليه إذا أزيل كيانـي..وكنيسـة العذراء أين مكانهـا
سيكون إن بعث اليهود مكاني؟”، نُفي عرار و عُزل لكنه لم يحيد يوما عن مبادئه، عمِل على تأطير الهوية الوطنية بإطارٍ أدبي فني فخلد الأردن و مجد قراه و قدس بواديه و طاف على وديناه و جباله ولعل قوله ” ليت الوقوف بوادي السير اجباري …و ليت جارك يا وادي الشتى جاري ” خير دليل على سعيه لإيجاد إطار ادبي يحوي الهوية الوطنية ، عشق العروبة و (ضادها) و نادى بالوحدة العربية الجامعة و التخلص من الاستعمار و اعوانه فلقد كتب عرار بقصيدة ((الحنين الى الجزيرة)) “وكل بلاد يلفظ الضاد أهلها …. بلادي و ان كانت بمثلي تضلع)) ، كما و أحب مجتمع النور و تغنى بمناقبه بأشعاره لكن و بالرغم من مرور ما يزيد عن السبعين عاما على رحيله الا ان سر ارتباط مصطفى وهبة التل بمجتمع النور لا زال غامضا عند الكثيرين.
كان عرار بسلوكه الاجتماعي و الأدبي يقدم نموذج للثورة و التمرد و قد برز هذا الجانب في شعره فكان شعره ثائرًا متمردًا ، و لقد استخدم نماذج بشرية واقعية من وحي المجتمع في شعره مما صَبَغَهُ صبغة فنية قلما صُبغت بها القصائد العربية، فلقد اتخذ عرار من ( الهبر ) نموذجًا للشخصية الاجتماعية المهمشة و المظلومة و المقهورة فقال في قصيدة العبودية الكبرى معاتبا مدعي عام اربد لعدم استقباله للهبر “يا مدعي عام اللواء وأنت من فهم القضية..الهبر جاءك للسلام فكيف تمنعه التحية ؟..ألأن كسوته ممزقة و هيئته زريه؟؟” ثم وجه مدعي عام اربد لكسر القيود الاجتماعية و استقبال الهبر فورا قائلا بذات القصيدة ” فاسرع وكفر ، يا هداك الله ، عن تلك الخطية..وادخله حالا للمقام وفز بطلعته البهية..ودع المراسم والرسوم لمن عقولهم ” شوية “..فالهبر مثلي ثم مثلك أردني التابعية”، و اتخذ من ( عبود ) رمزا للتطرف و التمسك بالتقاليد الاجتماعية التي كان يراها عرار فارغة ، و رمز الى المحتل (بكوكس)، و ربط شخصية قعوار بالصهباء و الندماء ، و لعل استخدام عرار لشخصيات مجتمعية كنماذج شعرية هو لخلق مبرر له في خطابه الاجتماعي الثائر على السائد.
اهتم عرار بمجتمع النور اهتمامًا كان في وقته غير مألوفًا لدى الأدب الشرقي و العربي ، فيكاد المتتبع لشعر عرار يلاحظ انه لا تخلو قصيده من قصائده من ذكر مناقبهم ، و يتساءل الكثيرين ما سر هذا الاهتمام من سياسي و شاعر وصل لأعلى المراكز الوظيفية المتوفرة في زمنه ، و عاشر عُلية القوم في زمنه و كان ندا لهم !!
ان اهتمام عرار بمجتمع النور كان بسبب انحيازه الى الطبقات المهمشة في المجتمع ، و يتجلى هذا الانحياز لهذه الطبقة من المجتمع بقصيدة ( رثاء الهبر) التي رثا بها صديقه الهبر – و الذي كان من النور – مع الإشارة الى عرار لم يرثي بشعره سوى الشريف الحسين بن علي و ابن عمه الشاب فؤاد علي نيازي التل و الهبر مما يدل على المكانة الرفيعة لمجتمع النور عامة و للهبر خاصة في نفس عرار ، و قصيدة ( بين الخرابيش) والتي جمع بها مناقب هذا المجتمع الإنساني قائلا ” بين الخرابيش لا عبد ولا أمة..ولا أرقاء في أزياء أحرار..ولا جناة ولا أَرض يضرجها..دم زكي ولا أخاذ بالثار..ولا قضاة ولا أحكام أسلمها..برداً على العدل آتون من النار..ولا نضار ولا دخل ضريبته..تجنى ولا بيدر يمنى بمعشار..بين الخرابيش لا حرص ولا طمع..ولا احتراب على فلس ودينار..الكل زط مساواة محققة..تنفي الفوارق بين الجار والجار”، ان انحياز عرار للفئات المسحوقة و المهمشة في المجتمع لم يكن السبب الوحيد الذي شد عرار الى هذا المجتمع الا ان عرار وجد بمجتمع النور مدينته الفاضلة التي تكاملت بها عناصر العدالة الاجتماعية و هذا ما كان يبحث عنه عرار الشاعر و الإنسان في مجتمعه و لم يجده ، و لعل من السمات التي جذبت عرار الى هذا المجتمع أيضا ميل هذا المجتمع البسيط الى اللامبالاه بفطرته، فلقد وجد عرار بهذه اللامبالاه المكان المناسب لروحه المرحه الهاربة من واقع الانهزام السياسي و العسكري الذي عانى منه عرار منذ الصِغر و عبر عنه في مرحلة دراسته المبكره في مدرسة عنبر من خلال المشاركة في المسيرات الطلابية الرافضة للاستعمار و المطالبة بتحرير البلاد العربية ، لقد كان خروج عرار الى مجتمع النور خروجاً ينشد من خلاله الخلاص من الواقع المر الذي يعانيه في مجتمعه والذي سادته الطبقية و الطمع و الحرص و الاحتراب على المال ، وكان عرار بهذا الخروج يعيد التوازن الى نفسه المرهقة.
لقد رأى عرار بمجتمع النور مجتمعًا متساوٍ تذوب فيه الفوارق و تتلاشى به الألقاب ، و اتخذ منه نموذجًا حيًا للمعاناة من الرأسمالية و الطبقية ، و لقد تبنى عرار قضايا هذا المجتمع و أنصفهم و سعى الى إصلاح مجتمعه من خلال نقل مناقب هذا المجتمع بأدبه ، و القارئ لشعر عرار لا يخفى عليه ان هذا المجتمع جسد لدى عرار حالة الحرية و العدل و الحب و هي القيم التي ناضل من اجلها عرار.