تربينا على أيدي أمهاتنا بطريقة فطرية طبيعية، كبرنا وأصبحنا رجالًا دون تعقيدات ما قبل الحضارة المزعومة.. أنا هنا أتحدث عن الأجيال الجديدة قبل ما سمي "بالحداثة"، ولفظ "الحداثة" هنا مجازيا حيث تعقدت الحياة وتشوهت التربية وكثر الهرج حول كل مناحي الحياة، وأصبح "الخبراء والخبيرات" الذين يدعون العلم في التربية وكل مناحي الحياة يملؤون فضاءنا ويلوثون تربيتنا.
أتذكر أن جدتي التي ربت مفكرًا ملأ الدنيا وشغل الناس وأستاذ جامعة ومحام لامع ومهندس بارع كغيرها من ألاف النساء الأردنيات في المدن والقرى والبوادي اللواتي قدمن للمجتمع رؤساء حكومات ووزراء كان لهم دورا بارزا في بناء الأردن كذلك الأطباء والمهندسين والمعلمين والمحامين والخبراء في شتى أنواع العلوم دون خبراء ولا خبيرات مزعومين .
ما دفعني إلى الكتابة حول هذا الموضوع ازدحام من يسمون أنفسهم في الإعلام -كما أشرت- خبراء في الحياة والتربية، وكيفية التعامل مع الأبناء. لقد هبط الأمر إلى مستوى أن نرى خبيرا أو خبيرة في الإعلام الذي ساعد في انتشار هذه الظاهرة المشوة يتحدثون عن "الأساليب الحضارية" لإيقاظ الولد من النوم، لتجهيز نفسه للذهاب إلى المدرسة، وآخرون يتحدثون عن كيفية ترتيب سفرة الفطور للأولاد، ومعظم نواحي الحياة التي كانت تسير بشكل طبيعي .. وأنا هنا أتذكر والدتي وتعود بي الذاكرة إلى ما يقارب الأكثر من أربعين عاما عندما كنا صغارا نذهب إلى المدرسة كيف كانت بصوت واحد حنون تجعلنا جميعًا نصحو من النوم للاستعداد لبدء اليوم الدراسي، وكيف كنا نجلس ككل الأسر الأردنية حول مائدة الفطور دون الحاجة إلى خبير أو خبيرة ثم نحث الخطى إلى المدارس مع آلاف الطلبة.
اليوم تشوهت أساليب التربية بأفكار بالية وفارغة، لقد أصبحت القيم والمبادئ والتربية الأصيلة من آثار الماضي لا نجد لها حضورا في واقع الناس وسلوكياتهم، وصارت الواقعية وتبريراتها مرض العصر الذي غيب كل القيم فكانت النتيجة مجتمع مفتوح على كل أبواب الفشل وأجيال تائهة لا تعرف ما تريد. وزاد في ذلك التشجيع الرسمي لهذه الظاهرة من بوابة دعم حرية الشباب وتهيئتهم للمستقبل، وغاب عن هؤلاء أن تهيئة الشباب للمستقبل يأتي من باب دعم الثقة بالأصالة التي توجد الثقة بالنفس عند هؤلاء من خلال دفعهم للحياة متسلحين بثقافتهم وحضارتهم وقيمها مستندين لعقيدتهم ثم لقوميتهم، القاعدة الصلبة التي تجعلهم لا يتأثرون سلبًا بالحضارات الأخرى ويتمسكون بقشورها من باب التحضر المزعوم، ليصبحوا مسخًا في السلوك والتفكير. كل ذلك كان أدى إلى ما وصلنا إليه اليوم من تخلف وسطحية في التفكير والسلوك عند أجيال بكاملها يعتبرها الخبراء الحقيقيون بأنها أجيال شبه أمية من الصعب التعامل معها أو معالجتها ؛ ذلك بأن هذه الأجيال لا تعترف بواقعها المشوه، بل تزايد بالثقافة والعلم وعقولها فارغة إلا من التعلق بالشهوات الجسدية، وسبب هذا كان تعرضها إلى عمليات ضخ مركزة من شتى وسائل الاعلام للسخافات والمعاني الفارغة وجعل الحياة مرتبطة بالاستهلاك الذي لا يؤدي إلا إلى الشهوات المشتركة بين الإنسان والحيوان، فأصبحنا نرى واقعًا مريضًا بأجيال هجينة.
كل هذا سببه أيضا عجز الأساليب التربوية التي سميت بالحديثة ظلمًا والتي كانت نتائجها ما نرى من خراب للأجيال وانفصال عن الواقع، فلا نحن حافظنا على جذورنا ولا استطعنا أن ننتج شيئا جديدا، فأضعنا الأجيال وجعلناها تائهة، وما نرى من نماذج اليوم دليل على صدق ما نقول.
اليوم يجب أن نهيء لمعركة شرسة لمحاولة إعادة هذه الأجيال إلى أصالة حضارتنا وكذلك إلى تربيتنا الأصيلة ، ستكون المعركة طويلة وصعبة ولكن إذا كانت النوايا صادقة وصافية لابد في النهاية من تحقيق الهدف.