كيف لمن لا يعرف معنى الكلمة أن يعرف قيمتها؟!
مجيد عصفور
02-06-2022 03:51 PM
ليس سهلاً على من ساهم في إعلاء البنيان أن يراه يتهدم أو يضمحل.
ليس سهلاً الكتابة عن ثلثي العُمر فالكلمات بالتأكيد تعجز عن التعبير فكيف اذا كان هذا العمر قد كان في أروقة صرح ثقافي انطلق كبيراً في الثاني من حزيران عام 1971 وظل كبيراً كما هي كتائب الدفاع عن الوطن.
نحن جيل التأسيس الذين واكبنا "الرأي" منذ العدد الأول، وكبرنا معها وفيها وصارت سارية ترفرف فوقها رايات الوطن تخفق باسم الأردن كل صباح.
ليس سهلاً أن أرى الجهد والعرق يتبدد، لا لسبب سوى أن من يقوم بتصريف الأعمال في الحكومة ما زال يزن الكلمة بميزان الفجل، ولا يسعفه وعيه للتفريق بين الرسالة والحوالة.
"الرأي" اسَّسها رجل كبير حمل هم الوطن وقدَّم روحه فِداءً لترابه، اسَّسها كي تنشر الوعي بين الناس وتدحض كل إفتراءات الأعداء في الخارج وأعوانهم في الداخل، نعم لقد أسَّس الشهيد البطل وصفي التل "الرأي" كي تعلي اعتزاز الأردني بوطنه وتضيء له دروب الكرامة والشموخ.
على مدى نصف قرن ونيف، هي عمر "الرأي" تبوأت هذه الصحيفة الأردنية القلم واللسان، مكانة مرموقة ومتقدمة، ليس في الوطن فحسب، بل وفي العالم العربي الواسع، حتى صارت "الرأي" مرجعية العرب إذا ما أرادوا معرفة أي موضوع في الشأن الأردني، والسبب أن "الرأي" حافظت على صدقيتها وتمسكها بثوابت الأُمَّة من الماء إلى الماء، بوصلتها واضحة لا غباش يعميها على الحقيقة مهما غلا الثمن وارتفعت التضحيات.
لقد صارت "الرأي" عملاقاً إعلاميّاً واقتصادياً أردنيّاً، بفضل التفاف الأردنيون حولها، وإخلاص العاملين فيها من الكوادر الصحفية والإدارية والفنية، ما جعلها وبصورة استثنائية دوناً عن كل الصحافة العربية، تحقق أرباحاً تفوق 100% من قيمة رأس المال ولسنوات طوال، محولة للدولة مبالغ طائلة كضرائب وأرباح عن مساهمتها في الجريدة.
إنني إذ أذكر مُضطراً الجانب المالي في مسيرة "الرأي" والذي اعتبره الأقل مرتبة في القيمة والمكانة التي تحتلهما الصحيفة في الوطن، لأذكَّر الشاكين من انحسار الأرباح الذين يتعاملون مع الصحافة تعاملهم مع سوبرماركت يبيع المعلبات والورق الصحي، انهم استردوا منذ زمن بعيد بعيد قيمة أسهمهم أضعافاً مضاعفة، وأنهم بلغة الحسابات التي لا يجيدون غيرها مدينون لـ"الرأي" لا دائنين، وربما هذه أول مرة يسمعون فيها من أحد أبناء "الرأي" كلاماً بهذا المنطق، لكنه برأيي كلام يجب أن يسمع لأنه ينطق بالحقيقة التي يتجاهلها مسؤولو الصدفة الذين يرفضون انقاذ صحيفة الوطن، والذين بسبب جهلهم بأصول المهنة وقواعدها، وعبثهم بالإدارات تغييراً وتبديلاً وتنفيعاً، أوصلوها إلى هذا الواقع المُر الذي تعانيه أسرتها وصفحاتها على حدٍ سواء.
إن من يمحو عن سبق تعمد وإصرار الذاكرة الوطنية للدولة وسجل يومياتها، يقترف جريمة بحق أجيال المستقبل التي ستجد نفسها تعيش فراغاً معرفيّاً ومعلوماتياً، يجعلها فريسة الحيرة والضياع وان التفريط بالوعي واهماله اولى خطوات فقدان الأمل وتلك مسؤولية الحكومات التي لم يسعفها ادراكها فداحة ومعنى غياب الصحافة الوطنية سواء اقترفت ذلك او بدونه.
إن ادارة الظهر بهذا الجهل للصحافة الوطنية، وتغييبها يخلِّف فراغاً تملأه بالضرورة صحافة اخرى تتفرّد بمخاطبة الشعب وبث الفكر الذي يهدف بالنهاية الى تغيير اولويات الوطن مودية الى الهاوية كل المبادئ التي ضحى من أجلها الآباء والأجداد، الذين بنوا الوطن على قواعد ثابتة وقدموا أرواحهم رخيصة من أجل وطن يعيش فيه الشعب بكرامة وحرية يملك إرادته وسيادته على أرضه مُتمتِّعاً بخيراته لا ينازعه أحد عليها.
إن الأجندات الخارجية تدخل إلى الدول عبر وسائل الإعلام والوسطاء الذين يروجون لها مقابل الثمن، وأهم المصدات التي تفشل مخططات أصحاب هذه الأجندات، وجود صحافة وطنية وإعلام وطني يحولان دون نفاذ السموم إلى عقول المواطنين والعكس صحيح.
ليس هذا تضخيماً لعواقب ترك "الرأي" والصحافة تذوي دون تدخل يعيدها إلى الألق وقوة التأثير الذين احتاجهما الوطن في الماضي ويحتاجهما الآن أكثر نظراً لازدحام التحديات التي تنهمر علينا كل يوم.
في عيد "الرأي" كنت أتمنى أن أكتب مبتهجاً بالمحافظة على الإنجاز والبقاء في القمَّة، لا متوجِّعاً غاضباً لما وصل إليه الحال بعد كل التضحيات، لكن عزائي أن "الرأي" جبل لا يتزحزح مهما اشتدت الريح، ولا بد أن يأتي يوم يكون القرار لرجال يقرأون من اليمين إلى اليسار، ولا يحملون في جيوبهم آلات حاسبة.