الصراحة راحة , ومع ذلك , فالكثيرون يجافونها , وبالذات , المنتفعون شخصيا من هكذا مجافاة .والصراحة هنا تقول , أن مشكلة الأردن السياسية داخليا , تتجسد طبيعيا , في تباين ولن أقول خلافا أو اختلافا , بين ثقافتين سياسيتين , الأولى, ثقافة المئوية الأولى السياسية , والثانية ثقافة المئوية الثانية السياسية.
أنصار وأتباع الثقافة الأولى وهم الأغلبية حتى الآن , يتشبثون بقيم وعادات وتقاليد المئوية الأولى , والتي تشكلت على مدى مائة عام مادتها الثورة العربية الكبرى وقضية فلسطين وسائر قضايا العرب الأخرى ,بحيث طبعت شخصية الإنسان الأردني بالطابع القومي أولا , ثم بالطابع الوطني ثانيا , وهو يرى في ذلك أصالة لا يمكن التخلي عنها .
هذا الواقع الذي يمتد على مساحة ما شهدته المنطقة لمائة عام , ما زال مستحكما في ذهنية أتباع الثقافة الأولى , فالأردني ومن مختلف المشارب , يؤمن بأن الغرب وتحديدا القوى الإستعمارية الكبرى , هم عدو للأمة كلها , وهم من يتحملون وحتى اليوم , مسؤولية قيام الكيان الإسرائيلي وما ترتب على ذلك من نكبات ومخاطر على الشعبين الأردني والفلسطيني , لا بل يرى الطرفان معا , أن الإستراتيجية الإسرائيلية الصهيونية الغربية, تسعى وبتسارع , لإقامة الوطن البديل في الأردن , وأكثر من ذلك , تتعمق الهواجس والمخاوف لدى الأردنيين إزاء الهوية الوطنية ,ومستقبل الأردن كوطن قدم آباؤهم وأجدادهم تضحيات كبرى دفاعا عن وجوده وصموده , وبما يوازي تضحياتهم في فلسطين والقدس الشريف.
من هنا وغيره مما لا يتسع المجال لذكره , يتخوف الأردنيون من أية ثقافة سياسية جديدة , لا بل ويرى معظمهم فيها , ضياعا لهويتهم التاريخية ولإرث كامل من التضحيات الجسام , ومن العادات والقيم التي سادت منذ قيام الدولة في عشرينيات القرن الماضي.
على الضفة الأخرى من التباين بين الثقافتين , يؤمن أنصار الثقافة السياسية الثانية , بالمعاصرة , ويرون أن العالم كله قد تغير, وأن التحديث ومحاكاة روح العصر , باتت حاجة ملحة جدا , كي يتمكن الأردن من التأهل للإنخراط ضمن النظام العالمي الجديد , وبالتالي , السير في ركب حضارة عالمية مستجدة لا تقبل في عضويتها بغير المنخرطين في استحقاقاتها.
الآن , يبرز السؤال , أين المشكلة , وكيف يمكن تخطيها ؟ .
الجواب " المتواضع " هو , أن طرفي المعادلة من أنصار الثقافتين, وفرادى , كل منهما غير قادر على إقناع الطرف الآخر , بجدوى ثقافته السياسية , لا التقليدية التاريخية القديمة , ولا الجديدة التي تتبناها نخب عديدة مدعومة من مختلف سلطات الدولة.
وهنا تتجسد المشكلة لتبدو كما لو كانت بين طرفين متخاصمين ,يسعى كل منهما لإلغاء الآخر ! , فلا أنصار ما نسميه الأصالة والتشبث بالتراث يملكون سلطة فرض الرأي , ولا أنصار ما نسميه الحداثة قادرون على الإقناع بما يريدون , والسبب في ظني , هو بعدهم عن محاورة العامة , وتوجيه أنظارهم بشكل خاص نحو نخب قومية ويسارية وليبرالية وشبابية بعينها , دون السواد الأكبر من عامة الشعب.
هذا الحال الماثل , ينعكس سلبيا وكل يوم , على مجمل المسيرة الوطنية برمتها , ويوسع دائرة المخاوف والشكوك وإضمحلال الثقة بين الدولة الرسمية ومواطنيها , خاصة وأن مكنون السياسات الغربية والمطامع الصهيونية المعلنة وغير المعلنة , يعزز وكل يوم أيضا ,تلك المخاوف والشكوك , عندما يجري إطلاق اليد الإسرائيلية المرتجفة حاليا , لأن تفعل ما تشاء في القدس والمقدسات وسائر فلسطين , لا بل والحديث المتكرر بأن الأردن , هو فلسطين , وبأن فلسطين التاريخية , دولة قومية لليهود فقط!.
ما الحل إذن لواقعنا الأردني المتباين؟.
الحل في تقديري البسيط , هو في المزاوجة بين الثقافتين , فالأولى هي متطلب وطني يصعب التنازل عنه تحت أي ظرف كان , والثانية , باتت متطلبا وإستحقاقا تفرضه مجريات العصر من جهة , والمصالح الوطنية لبلد صغير حجما ومقدرات محاط بالمخاطر المطامح والمطامع , من جهة ثانية.
لو تحدثنا مع بعضنا بعضا بصراحة ومكاشفة , ولو تحاورنا بنيات صافيات تشرح الظروف الإقليمية والدولية , وتطمئن الجميع ضد المخاوف والشكوك , ربما لكان بمقدورنا , أن نلتقي على هدف إستراتيجي مشترك نسعى معا وجميعا في محاولة جادة لبلوغه .
الأردن الجديد الذي أشار إليه جلالة " الملك " رأس الدولة , هو لجميع الأردنيين صغارا فاعلين , وكبارا يملكون الخبرات والتجارب , فالأجيال تتداخل ولا تتقاطع , والأوطان ملك مشاع لجميع مواطنيها بلا إستثناء ,وتحت مظلة الدستور والقانون حيث يتحقق العدل . الله خالق الكون مسير أمره من أمام قصدي.