غداة الذكرى السادسة والسبعين لاستقلاله، وفي الوقت الذي تقام فيه الاحتفالات بهذه المناسبة، تبرز مخاطر تكاد تكون وجودية، فالجغرافيا الظالمة التي وضعت الأردن على مسار بركان الصراعات في الإقليم، جعلته أسيراً لتداعيات تلك الصراعات فكان موئلاً لملايين اللاجئين من دول عديدة مما ألقى عبئاً إضافياً على موارده وعلى شعبه، كما وجعله حبيس الفقر والحاجة الدائمة للمساعدات من الخارج كون الجغرافيا الأردنية بخيلة بالموارد، وإن كانت كريمة في اعطائه أهمية استراتيجية مكنت قادته من لعب دور سياسي عَلى المستوى الاستراتيجي سواء على الصعيد الاقليمي او الدولي، وقد أجادوا لعب هذا الدور بحرفية عالية، لكن المخاطر الحقيقية ذات الطبيعة الوجودية بدأت تطل برأسها من جديد، فالبلد الذي استطاع عبر تاريخه أن يتجاوز مِحنا كثيرة، هددت بقاءه كدولة لمرات عديدة يقف الآن عند مفترق طرق شديد الخطورة فهو أمام خطرين لا يقل أحدهما عن الآخر.
فالخطر الأول عايشته الدولة الاردنية منذ نشأتها تقريباً وهو دولة الاحتلال، وإن كان الاعتقاد قد يكون بأن الخطر المتأتي من هناك قد زال بمجرد توقيع معاهدة السلام في وادي عربة، رغم ان الشكوك بمصداقية هذه المقولة بدأت منذ لحظة اغتيال رابين، فالخطر كان ماثلاً بما يعرف باليمين المتطرف لكن عزاء الدولة الاردنية أن الساسة الاسرائيليين كانوا يستخدمون هذا اليمين المتطرف في صراعاتهم السياسية، يقربونه حيناً ويبعدونه حيناً آخر، حسب حاجتهم إلى الأصوات لقلب أو تعديل ميزان القوى السياسي في تشكيل الحكومات أو هدمها، لكن منذ عقد تغير الحال تماماً، وانقلبت الاوضاع رأساً على عقب، فأصبح اليمين هو الأغلبية وهو من يستخدم القوى الاخرى لمصلحته وحسب حاجته السياسية، وهؤلاء يتمحور إيمانهم بمرتكز أساسي فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فحواه أن لا مكان لدولة فلسطينية غرب النهر وإنما مكانها يجب أن يكون شرق النهر، وقد بدأوا مخططهم هذا من خلال بناء المستوطنات وقضم الأراضي وأسرلة المدن وتهويد الأماكن المقدسة، كل ذلك بغاية رئيسية جعل سبل العيش للفلسطينيين مستحيلة لدفعهم الى الهجرة.
أما الخطر الثاني فهو الخطر الايراني، الذي يبدو كأنه خطر جديد لكنه في الحقيقة ماثل للقيادة الاردنية منذ فترة طويلة، وقد أشار إليه الملك عبدالله الثاني ابن الحسين منذ أكثر من عقد حينما وصفه بـ«الهلال الشيعي»، واثبتت الأحداث في المنطقة وفي الجنوب السوري ان هذا الخطر بات على بعد خطوات قليلة من الاردن، وقد فاقمته او سارعت في وتيرته الحرب الروسية على اوكرانيا، فسحب القوات الروسية احدث فراغاً في القوة في الجنوب السوري وهذا جاء كهدية للإيرانيين وهم المؤهلون الوحيدون لملء هذا الفراغ، فمحاولاتهم منذ سنوات في ايجاد موطئ قدم على الحدود مع الاردن قد نجحت أخيراً، مما يجعل تهديدات قائد القوات الجوية للحرس الثوري الايراني علي حاجي زادة مؤسسة على أمل مستقبلي بالتحقق فهو الذي قال (إن على الأردن ودول الخليج وأفغانستان إخراج القوات الأميركية من أراضيها وإلا فإن القوات الايرانية ستخرج الاميركيين بالقوة)، وإذا ما أضفنا الى هذا التصريح ما قاله قاسم سليماني في مرات سابقة (ان ايران اضافت الاردن الى قائمة الدول التي تتحكم فيها والبلاد تتوفر فيها امكانية اندلاع ثورة اسلامية تستطيع إيران أن تتحكم فيها) انتهى الاقتباس، إذاً فطموح الايرانيين في محاذاة الاردن لن يقتصر ابداً على الرغبة في تهريب المخدرات وبيعها.. فماذا يريدون اذاً؟
لا شك أنهم يريدون ما هو أبعد من ذلك بكثير، فحالة الهدنة الظاهرية بين القوى الاقليمية والتي تعبر عن نفسها بزيارات ولقاءات ما هي إلا مرحلة عابرة فحالة التموضع التي تقوم بها كل من تركيا في الشمال السوري وإيران في الجنوب، تشير الى أن سوريا ستكون منطلقا لصراع اقليمي قادم وهذا هو المخيف في وجود الإيرانيين على الحدود، فهم يعتبرون الأردن نقطة انطلاق للضغط على كل من دول الخليج ودولة الاحتلال فالسيطرة على الأردن ستشكل ورقة ضغط هائلة تضاف الى الورقة اليمنية، ولأن إيران لا تستطيع العمل في البيئات المستقرة، فهي ستبدأ مشوارها الطويل بزعزعة الاستقرار في الاردن والمخدرات وانتشارها والاسلحة واستحواذها من قبل المجتمع، ستكون وسائلها الرئيسية في الوصول إلى حالة اللا استقرار والفوضى، لكن الجيد في الموضوع أن القيادة الأردنية مدركة لهذا الخطر وتستعد لإجهاضه، وهذا ما أكده الملك عبدالله الثاني ابن الحسين خلال مقابلته مع الجنرال المتقاعد هربرت ماكماستر، أعتقد أن التدرج في الرد سيكون هو الطريق الذي سيسلكه الأردن خلال المرحلة القادمة، لكنه حتماً سينتقل الى مرحلة المبادرة والفعل في مرحلة ما، لكن ما هي حدود هذا الفعل لا استطيع التخمين لكن الايام وربما الاشهر القادمة ستميط اللثام عن نمط الرد الأردني.
أما الخطر الإسرائيلي فالمنقذ الحقيقي هو تغيير معادلة الصراع والعودة إلى الخيارات المهملة واحيائها من جديد.
(الرأي)