ربما هو حاجة فينا، نعيشه ونتعايشه بشكل يومي مع سبق الإصرار، وقد يكون هذا الشيء جزءا من "الكاريزما"، ومن أدوات التخاطب التي يتقنها البعض وتجعل الشخص قادرا على التأثير فيمن حوله، ولفت انتباههم واكتساب ودهم واعجابهم، واحيانا يضطر هؤلاء الى تبديل الحقائق وقلب المفاهيم في الأذهان ليسوقوا الناس عنوة الى الاعتقاد بما يجول في خواطرهم أو يدور في أنفسهم.
لا أبالغ ان قلت ان "النفاق" صار اليوم أشبه بمكون اجتماعي ويسري في كثيرين منا مسرى الدم، ونتمثله في مختلف شؤوننا طوعا أو كرها، بعد ان نترصد له الزمان والمكان، المقام والمقال، ليكون الرسول والرسالة، والجسر الموصول الذي نعبر من خلاله لتحقيق الغايات بغير حياء أو استحياء.
في العادة يولد الإنسان نقيا خالصا، لا تشبه شائبة أو يعيبه عيب في معترك الحياة التي تتزاحم فيها الشؤون والشجون، حتى ينخرط في محيطه الجديد المليء بالمتناقضات الصارخة، فيتوالد لديه الطبع والطبائع، حيث للحقيقة ألف وجه ووجه، فهي الشاهدة والشهيدة معا، فيصير الكذب "ملح الرجال" والنفاق "فهلوة وشطارة"، والبحث عن المصلحة "أسلوب حياة"، فتنعدم حينئذ المشاعر الاصيلة وتتفشى بدلا عنها الكراهية وتتجمد المحبة بين سائر الخلائق.
عموما، يميل واحدنا الى سماع الإطراء والثناء ويتوخى المديح والإشادة من الآخرين حتى وهو يعلم انهم يكذبونه أو ينافقونه، او يتزلفون اليه طمعا، لكن هذا ما يسعده ويحقق له مبتغاه، وقد يعتبره من متطلبات "النفخة" الاجتماعية، وضرورات المناسبة. هم قلة الذين يدققون فيما يسمعون، ويتحرون الحقيقة كما هي، ويعلمون ان الحق أحق ان يقال ويتبع، فيبتعدون عن الأوهام والتضليل الذي تتم ممارسته في غاية الفن والاتقان. يقول وليم شكسبير: "بعض البشر يتحدثون بثقة عن الطيبة ويمارسون النفاق بمنتهى الإبداع"، وربما هذا حال معظم المجتمعات اليوم.
من صور النفاق الذي اصبح ضرورة اجتماعية عند البعض وسلطة قائمة بحد ذاتها تستخدم ضد الآخرين، هناك "التواضع المصطنع" بكل تجلياته وانتقاله من التنظيرالى الممارسة اليومية على نحو مثير للإشمئزاز، وهو هنا يتجاوز آفة "الكبر" نفسه في القبح والتقزز الذي نمقته وننفر منه في مسار تعاملاتنا، غير أنه أشد وضوحا من التودد المزيف، وعلى الأقل انت تعرف مع من تتعامل، وتستطيع أن تحدد آرائك وتعلن مواقفك بأريحية.
اليوم، دخلت "السوشال ميديا" على الخط وصارت أداة فاعلة في نشر النفاق وجعله مادة يومية يتداولها الناس من دون كلل أو ملل. في السابق، كان حريا بمن يريد ان يشارك في "بازار النفاق" الذهاب اليه مشيا والجلوس والتعرف الى الحضور وقد يحتاج الامر الى شيئا من الكدح البلاغي، ليحسن دس السم في الدسم، للظفر بالفريسة. لكن مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي صار كل شيء متاحا وما عليك الا ان ترفع سماعة هاتفك وتمارس نشاطك بهمة، او حتى ان تكتب مقالا في صحيفة تمدح به هذا الشخص أو ذاك، أو ربما تنظم قصيدة أو تغني أغنية، فما عليك الا ان تحاول فقط، ولك أن تتخيل حجم الضرر الذي سيقع في المجتمع جراء انتشار هذا الوباء الذي اصبح واقعا يستمرئه كثير من الناس.
ايضا، في علاقات الدول هناك شيء من هذا، فالنفاق السياسي او الدبلوماسية او "الحكمة"، سمّه ما شئت، يظل صفة ملازمة وحاجة ملحة في تطور هذه العلاقات، فلا مجال للمواجهة المباشرة أو المكاسرة الخاسرة، فعدتك هنا المداهنة والمراوغة لا غير.