الأمم المتحدة والعراق: على جسر المسيب سيبوني
علي الزعتري
17-05-2022 11:26 AM
هذا العراق العظيم رأى مفترقاتٍ فارقاتٍ في حياته الحديثة. منذ مقاومته الوصاية البريطانية ثم انتقاله للحكم الملكي الذي انتهى بمذبحةٍ بشعة و بمروره بسلسلةِ الانقلابات ثم حكم البعث و حرب العراق وإيران التي استمرت ثمانية أعوام و بعدها حربي الخليج. والعراق لليوم لا يزال في فمِ الأقدارِ التي ترسمها لهُ و تنفذها رغباتُ مصالح ليست بمصلحته. و هي بتلاقيها مع مصالح داخلية تتنوع في التوجهات السياسية و الطائفية و الشخصية و استشراء الفساد العالي في الحكومات المتعاقبة فإنها تجعل من رسم قَدَرَهُ و مستقبلهُ باستقلالٍ وسيادةٍ لفائدةِ العراق و شعبه من المستحيلات. في هذه الدوامة كانت و تبقى تَنْسَّلُ الأمم المتحدة بفائدتها و بمرارتها و تنتقل من الهامشيةِ للصدارةِ الأليمة.
في التسعينات، بعد حرب الخليج الأولى، دخلت العراق أممُ متحدة لم تكن مألوفةً و لا كانت كَيِّسَةً في تواجدها. و انقسمت منظمات الأمم المتحدة في العراق حينها لِفِئاتٍ وظيفيةٍ غير مُتجانسة بل حتى غير مُتافهمة فيما بينها. فقبلِ الحرب كانت المنظمات التقليدية تعملُ في التنمية بأشكالها و بهدوءٍ رتيبٍ رغم وطأةِ الحرب مع إيران لكنها سريعاً ما أُزيحت جانباً و كادت أن تُهَمَّشَ بعد حربِ الخليج الأولى. و لولا استشرافِها بعض الفرص المتاحة و كانَ منها إعادة تشغيل مرافق صحية و بلدية أو استكمال برامج زراعية و ثروةٍ حيوانية لكانت بالفعل قد طوت صفحتها في العراق. لكنها في هذا الاستشراف لم تكن تشتغلُ تنميةً بالمعنى المعروف و المرغوب بقدر ما كانت تشغيلاً لها و تبريراً للبقاء من باب تقديم المعونات الإنسانية لبعض الخدمات التي توقفت إبان الحرب. أما المنظمات التي كانت تُعنى بالاحتياجات الحياتية الأساسية كالغذاء والعلاج، و الفئات الضعيفة مثل الأمهات والأطفال و النازحين و اللاجئين، فقد تعاظم دورها بطبيعةِ انتقال البلاد من حالٍ لحالٍ اشتدت فيه أزمات العيش للعراقيين و غيرهم من الجنسيات القاطنة في العراق. و خُلِقَ دورٌ ينبغي أن نعترف أنه كان بغيضاً للأمم المتحدة و هو التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية التي لم يُعثر عليها و أُستخدمت كذريعةٍ مناسبةٍ لغزو العراق بعد أعوام. و بموازاةِ هذا التشكيل دخلت العراق لأول مرةٍ في تاريخهِ قوة حرسٍ للأمم المتحدة مُشكلَةً من عددٍ من الدول كان عملها الرئيسي في شمال العراق لتوفير دعمٍ لعمليات الأمم المتحدة الإنسانية في الشمال الكردي و هو الذي بات قابَ قوسينِ أو أدنى من الانفصال عن بغداد. بالإضافة، تواجدَ مكتبٌ صغيرٌ يتابعُ العلاقة العراقية الإيرانية تحت مظلة تبادل الأسرى و الرفات للطرفين و اتفاق وقف القتال. و في نيويورك و جنيف تشكلت لجانُ متابعةِ و تنفيذ العقوبات و الإشراف على التعويضات العراقية للكويت و المتضررين من غزو العراق للكويت. و تأسست كذلك بعثة الأمم المتحدة للعراق والكويت، اليونيكوم، المكونة أساساً من قواتٍ بنغلاديشية، لتعنى بالمنطقة الحدودية بين العراق والكويت منزوعة السلاح و خاليةً من الخروقات، ثم أضيف لها تبادلٌ للأسرى و رفات القتلى و استعادة المقتنيات والوثائق و الاستعلام عن المفقودين. و قد امتد عملها لما بعد حرب الخليج الثانية ثم حُلَّتْ لانتفاء الحاجة لها.
في الأثناء فرض التحالف الدولي منطقتي حظر طيرانٍ من جنوب بغداد و لحدود الكويت و السعودية و من شمالها للحدود التركية و السورية و الإيرانية. بين خطي العرض ٣٣ و ٣٦ لم يكن لطيرانٌ عراقيٌ من مكانٍ في أجواء بلاده إلا في المنطقة المحصورة بين خطي العرض هذين و إن كان ولا بد فالإذن بالطيران والمتابعة كان يأتي من قيادة التحالف في المنطقة، إما في السعودية أو الكويت. مرافقة التحالف للطائرة كانت من لحظة إقلاعها و لعودتها و في الوقت المحدد لها من التحالف و دوماً بمصاحبة التحذير لطاقمها بعواقب الأمور إن اجتازوا خط الطيران المرسوم أو الوقت الممنوح للطيران من التحالف. و بالطبع كان يتم اصطياد الطيران العسكري العراقي و الدفاع الجوي من قبل التحالف المؤلف أساساً من الولايات المتحدة و بريطانيا وفرنسا لإضعاف العراق بمواجهة سيطرةٍ كاملةٍ على أجوائه تمارسها هذه الدول.
اختلطت الأمور كثيراً في تلك السنوات ما بين ما هو أمم متحدة و ما هو تحالف، فالتحالف كان يستخدم شرعيةَ قرارات مجلس الأمن والتي صاغتها ذات دول التحالف. لكنه كان يتجاوز هذه الشرعية بكل الوسائل خاصةً في توالي قصفه للقوات العراقية و مرافقه. و الأمم المتحدة بكل فئاتها في العراق كانت مُلزمةً بتطبيق العقوبات التي وضعها مجلس الأمن و كانت تعاني كذلك منها ومن القصف التحالفي. ففجأةً تجمدت الحسابات البنكية التابعة لها و خضعت مستورداتها حتى المكتبية منها لموافقات طويلة و إجراءات معقدة من قبل رئاساتها و الدول المراقبة التي تفرض طوقا من العقوبات الصارمة على إسم العراق في أي تداول. و في يونيو ١٩٩٣ كانت الأمم المتحدة مثل العراقيين ببغداد تشهد قصفاً مركزاً بصواريخ كروز انتقاماً لما قيلَ أنه كان محاولةً عراقيةً لاغتيال الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش. و إن كانت من شكوى خافتةً للأمم المتحدة ضد العقوبات على مستوى العاملين في العراق فقد تضاءلت هذه تماماً أمام ما افتعلته العقوبات من تقييدٍ لا إنساني بل تهديمٍ لحياةِ كل عراقي. قد لا تستطيع الإحصاءات حصر الموتى و المعوقين و المهجرين من جراء العقوبات بالتدقيق لكننا لا نبالغ أن نقول أنهم بالملايين. من المخجل إن العالم الذي يقف ليحاكم قتلةَ أبرياء في كثير من الدول التي مرت بكوارث الحروب لم يجد في موت العراقيين سببا يدعو و لو لدقيقة صمت بمجلس الأمن حداداً عليهم أو تذكُراً لهم و هو الذي شرع العقوبات في المقام الأول.
آنذاك في التسعينات و لغاية ٢٠٠٣ اتخذت الأمم المتحدة التي وفدت بعد الحرب من فندق القناة مقراً. هو كان كليةً للسياحة و الفندقة و أعْطِيَ للأمم المتحدة التي أتت للعراق بعد حرب الخليج الأولى. أما ما كان متواجداً من منظمات الأمم المتحدة قبل الحرب فبقيت مكاتبها متفرقةً ببغداد. كان فندق القناة محروساً من جهاته الأربع من الحكومة العراقية و مُؤَمَنَّاً من المتطفلين أو الحانقين على الأمم المتحدة. لكن الحراسةَ هذه توقفت بعد قرار حَلِّ الجيش العراقي الذي اتخذته إدارة التحالف المسيطر في العراق وقتها الذي جاء مع انتصار التحالف و دخول بغداد فكان قَدَرُ المقر التفجير الانتحاري الذي حصد أرواح العديد من زملائنا عام ٢٠٠٣. كان أبْرزَ الضحايا ممثل الأمين العام سيرجيو فييرا دي ميلو و الصحفية الأردنية رهام الفرا. و كان التفجير بدايةً لتفجيراتٍ مماثلةٍ ضد الأمم المتحدة في الجزائر وباكستان ونيجيريا وأفغانستان مما أطلقَ موجةً من إجراءات الحماية لمكاتب الأمم المتحدة جعلتها في كثيرٍ من الدول بمعزلٍ عن الناس الذين أُنشئت باسمهم. و كان كذلك بدايةً لتحول العراق لمسرح عمليات داعش - الدولة الإسلامية في العراق والشام والذي يستمر لليوم.
و لِبُعْدِ فندق القناة عن وسط بغداد كانت مجاميع المحتجين و المظاهرات ضد قرارت مجلس أمن الأمم المتحدة في التسعينات تتوجه لمقر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالشارع الشهير أبو نواس. و كان من ضمن مهامنا غير المكتوبة بأي مسمىً وظيفي هو استلام مذكرات الاحتجاج و الاستماع لكلمات المحتجين أمام باب المكتب الحديدي و من ثم إرسال هذه المذكرات بالحقيبة الدبلوماسية للأمانة العامة في نيويورك حيث لم يكن من شك أنها كانت تُسْتَقْبَلُ بِتَجاهُلٍ تامٍ. عديدةٌ هي المرَّات التي استمعنا فيها لكلماتٍ صائبةٍ من وفود عراقية و عربية تحتجُ على الحصار و آثاره على العراقيين لكن بلا جدوى فلم يكن بأيدينعطيه غير الصمت و لم يكن بمقدورهم أن يفعلوا غير الاحتجاج. كان هذا هو التعبير المتاح مع الجهةِ الأضعف حيلةً و وسيلةً. و بالقدْرِ الذي أولته حكومة العراق لحماية مكتبنا من غضبات المحتجين فقد كان قدرَ منظمة الأغذية والزراعة مؤلماً عام ٢٠٠٠ حين اقتحم مكتبها رجلٌ مُسلح و قتلَ نائب ممثل المنظمة و موظفا محلياً. كان الرجل المسلح يحتج على الحصار و لم يتوان عن القتل. وفي المقابل كانت الشكوى متواصلةً من موظفي الأمم المتحدة المُجبرين على الإقامة في فنادق محددة من عَبَثٍ و تفتيشٍ لأمتعتهم و تخريبٍ لها من قِبَلِ ما من وصفوهم بالأمن العراقي في غفلةٍ من إدارات الفنادق. لم يكن هذا العمل المراهق إلا تنغيصاً مبرمجاً لهؤلاء الموظفين. و لم يكن يقدمُ أو يؤخر في مسارِ تواجد الأمم المتحدة و اضطرارها تنفيذ قرارات مجلس الأمن و لجانه. والواقع أن الأمن العراقي كان يحرص على اختراق الأمم المتحدة بكل وسيلة، كما ديدن أجهزة الأمن عادةً، و كان يضع ضغوطاً مرعبةً على الموظفين العراقيين للتعاون معه. و لم يكن ما نقوم به إلا عملاً طبيعياً معروفا له و غير مُهدد. و بدا لنا أن هذه الممارسات تنم عن ضحالةٍ في تناول مفهوم الأمن و استهدافاً غير منطقي لمنظماتٍ لا ترسم سياسة و لذلك لم يكن مفهوماً إلا في نطاق العداء الذي استشرى للأمم المتحدة بتأثيرِ العقوبات و فرق التفتيش.
و بالفعل كان ظهور الأمم المتحدة في العراق بهذا النمط الذي انتقل من دَعَةٍ و دبلوماسيةٍ اتسمت بها العلاقات مع العراق إلى استقواءٍ من مجلس الأمن عليه سبباً في انبعاثِ الكراهية ضد الأمم المتحدة. مثلاً، مظهر سياراتُ الأمم المتحدة التي تجوب بغداد كان مُستفزاً للعراقيين و مُستجلباً عدائهم حين كانت تُرْفَعُ أعلاماً ضخمةً للأمم المتحدة تكاد تغطي السيارة و بهوائيات الاتصال اللاسلكي مما كان يحملُ الكثير من المعاني للحكومة العراقية و المواطنين، و المعنى الأكبر كان يشي بفقد السيادة العراقية. كانت تلك سياراتٌ لمنظماتٍ غير مؤذية و لا مُتغولة و مطلوبٌ منها و مُتفقٌ عليه مع الحكومة أن تعلن عن نفسها و تبقى باتصال بمقراتها حماية لها من أي طارئ. لكنها رغم هذا دفعت العراقيين للاستفزاز بفضلِ سيارات فرق التفتيش التي كانت تتحرك بمواكبةٍ أمنية من الدولة و التي فرضت منظراً مستهجناً بلا جدال عند استخدامها لشعارات الأمم المتحدة وهي كانت أبعد ما يكون عنها. فبنظر الكثير منا كانت فرق التفتيش مكونةً من مجموعةِ مرتزقة تمارس سلطةً إذلاليةً بالتعمد و القصد لكسر الكرامة العراقية. و هي فعلت ذلك بامتهانٍ مُتعمدٍ مباشر لكل رمزٍ عراقي سواء كان بيتاً خاصاً أو قصراً رئاسياً أو معملاً أو جامعةً. و هي كانت فوق القانون تماماً. و بتقمصها قرارات مجلس الأمن فهي حوَّلت الأمم المتحدة لكيانٍ مكروه من قِبَل العراقيين. و إن التزمت الأمم المتحدة بمنظماتها التقليدية برسميات البروتوكول و القانون المتبقية في دولةٍ مهزومة و محاصرة و مُعاقبة و حاولت المحافظة على حيادٍ و دورٍ إيجابي، فإنها كذلك كانت تُجابهُ بالصَّدِ من جهاتٍ داخل المنظمة تريدها أن تكونَ عدائيةً للعراق أو أن تخرج من أعمالها في العراق بحجةِ تناقضها مع قرارت محلس الأمن من تركيز العمل الأممي على الجانب الإنساني فقط. كما كانت هذه المنظمات تُجابهُ بكراهيةٍ متعاظمة من العراقيين الذين لم يروا الفرق بين التفتيش المهين و التعاون التنموي والإنساني و هما نقيضين يحملان نفس الهوية. هذه الممارسات وغيرها كانت تفرضُ صمتاً على الأمم المتحدة في عملها التنموي والإنساني فلا يوجد فيها من يحتج بصوتٍ عالٍ على ممارساتٍ ضارة مثل الحصار الخانق و العقوبات المميتة و فرق التفتيش إلا في أضيق الحدود و إلا كان عرضة للاتهام بالعمل ضد الشرعية الدولية. و قد نوهتُ بمقالةٍ سابقةٍ بالدور الذي قام به مسؤولون سابقون و الذين أنتهى بهم الأمر للخروج احتجاجا على دور الأمم المتحدة في نظام العقوبات. و لا أنسى هَمْسَ زميلٌ عتيقٌ من اليابان عندما اعترضتُ على بعض الممارسات أن أَحْذَرَ السامعين من الدول و غضبها. لكننا كُنْا نغضبُ للعراق و مِنهُ. نغضبُ لَهُ من الذي يلدغهُ ليل نهار و منهُ لِما آل لهُ البلدُ على يدِ حُكْمٍ لم يعرف الرحمة و الحكمة.
الرحمة لم تكن لتأتي لا من الداخل العراقي و لا من الخارج. الداخل مأزومٌ و بقبضةِ الحكومة و منظورها الأمني و البقاء الذي انتهى بزوالها عام ٢٠٠٣. و الخارج عازمٌ على عزل العراق و تغييره على هواه، و هو ما حصل بتراكم الأحداث. أما الأمم المتحدة فلم تكن تملك سوى أن تكون أداةً طَيِّعَةً في زمنٍ غابَ عنه التوازن الدولي. التركيز الحثيث منها على العون الإنساني كان أشبه بتكفيرٍ عن تلبسها العقوبات و فرق التفتيش. لقد كان خطأ العراق بغزو الكويت لا يُغتفر لكن ما تبع التحرير كان ذبحاً ممنهجاً في العراق. كم شهدنا من ظُلْمٍ مورِسَ من الخارج باسم عقوبات الأمم المتحدة طالَ كل احتياجاتِ الحياة و أحال حياة العراقيين للموتِ البطيئ. و ظلمٌ داخلي حين موارد الدولة كانت تذهب لبناء صروحٍ شامخة مثل متحف مقتنيات الرئيس بدلاً من دعم الشعب.
و ها هي المأساةُ العراقية تتواصل بعد اثنين و أربعين عاماً منذ اشتعلت الحرب مع إيران؛ و اثنين و ثلاثين عاماً منذ غزو الكويت؛ و تسعة عشر عاماً منذ غزو التحالف و انتقال العراق من حُكْمٍ لِحُكْم. أعواماً واكبتها الأمم المتحدة بقضها و قضيضها و ممثليها و بعثاتها و مؤتمراتها و قراراتها. و لا يزال العراقي بلا أمنٍ حقيقي و لا كهرباء و لا نماءٍ راقٍ يليقُ به و بالحضارة التي أتت بمواثيق الإنسانية منذ حمورابي. و لا أستطيع أن ألوم المنظمة، فهي التجميعُ الدولي للإرادات المصلحية للدول بالسلبيات والإيجابيات كلها و هي محصلةِ تخبط واصطدام المصالح في كل أزمة مما ينعكسُ على الدول المأزومة مباشرة. الأمم المتحدة لا تُقرر و ليس لديها مصادر تمويلٍ مستقلة و بالرغم من تمويل الدول الطوعي أو المستهدف فتأثير هذه الدول قويٌ عند إقرار موازنات الأمم المتحدة وأين ستذهب بالتمويل خاصةً عند مناقشةِ دولٍ تعتبرها الدول المانحة الرئيسية دولاً مارقةً أو فاشلةً. يبقى لذلك دور الأمم المتحدة مرتبطاً بمقيدات التمويل و مِطواعاً في الاستراتيجيات للإرادات الخارجية و بالنتيجة غير قادرٍ زحزحتها أو تلك النعرات الداخلية المرتبطة بمصالح معقدة. تناغمٌ أم نشازٌ لا يختلف عن التسعينات. الفرق أن التسعينات كانت حصارا و ديكتاتورية و اليوم هي نفوذا خارجيا لا يمكن التخلص منه و تعددية أشبه بالفوضى و كلا النموذجين أمعنا تعذيبا للعراقيين الذين لا يريدون إلا ضمان المستقبل و عيش كريم. نعم، هناك مفرداتٌ للعمل الأممي هي مصدرَ إعجابٍ، و في قطاعاتٍ مختلفة معظمها إنساني، و لكن للقلةِ القليلة من المتابعين و المستفيدين و ليست زخماً ينتشلُ العراق من أزماته المتعددة. و لعل الفشل الأممي السياسي هو الأبرز و سيستمر طالما أنه نتاج تدوالٍ مصلحيٍّ أقوى يخرج عن إرادة المنظمة.
في إحاطتها الدورية لمجلس الأمن قالت ممثلة الأمين العام في العراق في فبراير من هذا العام أن "شعب العراق … لا يزال ينتظر فرص عمل مربحة ومنتجة وينتظر الأمن والأمان وخدمات عامة مناسبة والحماية الكاملة لحقوقه وحرياته والعدالة والمساءلة والمشاركة الفعالة للنساء والشباب، على سبيل المثال لا الحصر……. وكما تعلمون، فإن العراق يمتلك بالفعل إمكانات هائلة! وفيما لو تم تسخير هذه الإمكانات، لَكُم أن تتخيلوا كم سيكون مستقبل العراق مشرقًا."
نحن نعلم بإمكانيات العراق العظيم لكننا نأسف أنه بعد هذه السنوات العجاف لا تزال الأماني الفضفاضة تستخدم في بلدٍ لا يستطيع الخروج من أزماته أو لا يُراد له ذلك. يقتضي ذلك شجاعةً من الأمم المتحدة للتصريح لا التلميح بالأسباب.
لقد لامني الأصدقاء أن مقالاتي تتوسع في الشرح و لا تُعطي الحل. و هل يمكن تغطية الشمس بالغربال؟! الحل أمام الجميع في العراق العظيم لكنها المصالحُ المتسعة للخارج والداخل التي تحرصُ أن يُستخدم العراق للثمالة لخدمة مصالح بعيدةً عن شعبه و في خدمة حكوماتٍ في غيره. العراق يحتاج للتخلص من شباك و مصائد هذه المصالح غير العراقية و من الفساد الداخلي كحَدٍّ أدنى لينهض. لكنها وصفةٌ سهلةُ المقال و بعيدةُ المنال.