لو توفيت شيرين أبو عاقلة في حادثة سيارةٍ أو نتيجة مرض ما مثل ملايين البشر، لحزن كثيرون وشعروا بالأسف عليها، لكن استشهادها بهذه الطريقة الرمزية جاء ليمثّل مشهداً رمزياً ولحظة تاريخية عربية، بل عالمية، في غاية الأهمية، وتحمل من الدلالات الكثيرة التي من الضروري أن نتوقف عندها ونفكّر فيما بعده.
عربياً وإسلامياً، كان واضحاً تماماً الصدى المدهش والغليان الشعبي، وهو أمر بالضرورة أرسل إلى الجميع رسالة واضحة أنّ التهوين من أهمية القضية الفلسطينية ومركزيتها، ليس فقط عربياً بل عالمياً، نظرية سخيفة، وما بني عليها بمثابة قصور على رمال متحرّكة، بمجرد ما يشعل عود الثقاب المشهد بأسره.
أمّا أردنياً فإنّ توقيت عملية الاغتيال المقصودة تزامن مع زيارة الملك واشنطن، وسعيه الحثيث المستمر إلى مواجهة الخطوات الإسرائيلية الخطيرة نحو تهويد القدس والسيطرة الكاملة على المسجد الأقصى، وإخراج الأردن من المعادلة بصورة كاملة، والاستفراد في الفلسطينيين، بخاصة مع الانهيار العربي السافر.
بالتأكيد، سيعزّز ما حدث من السردية الأردنية في واشنطن، بخاصة أنّها تزامنت مع هجمةٍ غير مسبوقة من الإعلام الإسرائيلي والإساءة لموقف الأردن ومحاولة ربط ذلك بما اعتبرته أقلام إسرائيلية بمثابة أزمة داخلية أردنية، أو التلويح بالأجندة الإسرائيلية الاستراتيجية التي ترى الأردن "وطناً بديلاً" للفلسطينيين.
حسناً، فليكن ذلك طالما أنّ هذه هي الأوراق الإسرائيلية في اللعب مع الأردن؛ فإن على الأردن أن يشكر إسرائيل على تطوير حجم هذه الأوراق ولاستخدامها، فهل يوجد قرار شعبي سياسي أردني اليوم سيحظى بشعبية سياسية وتوافق وطني وترحيب شديد وتصليب للجبهة الداخلية أكثر من قرار تجميد العلاقات مع الكيان الإسرائيلي؟ ومراجعة معاهدة وادي عربة، وإعادة النظر فيها، وفي ما بعدها من اتفاقيات؟
إذا كانت الأزمة الداخلية هي محرّك القرار السياسي الأردني، كما يروّج الإسرائيليون، فإنّ مثل هذا القرار سيقلب الطاولة تماماً، وإذا كانت إسرائيل تهدّد الأردن بسحب الوصاية وبموضوع الوطن البديل وغيره، فليعلن الأردن اليوم فتح باب حوار استراتيجي مع السلطة الفلسطينية وحركة حماس والقوى السياسية الفلسطينية المختلفة، لمناقشة المرحلة المقبلة، والتعامل مع النكوص الإسرائيلي نحو اليمين والتطرّف والتخلي الكامل عن التزامات التسوية السلمية. وليكن ذلك ردّاً واضحاً على ما حدث وما يزال من محاولات إسرائيل المسارعة في إنهاء موضوع القدس، فعلى الأردن التمسّك بالقدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، ودعم كل مشروعات الصمود الداخلي الفلسطيني.
ليس هذا الكلام للاستهلاك الداخلي أو فقط للرد الإعلامي على الدعاية الإسرائيلية، بل هو مرتبط جوهرياً واستراتيجياً بالمصالح الاستراتيجية الأردنية.
والمعروف أنّ القضية الفلسطينية، وبخاصة الأوضاع في الضفة والقدس واللاجئين وحق العودة وغيرها من ملفات، كلها تدخل في صلب الأمن الوطني الأردني. ولا يوجد سبب عقلاني وواقعي يفسّر تمسك الأردن بعلاقات مع إسرائيل وبمعاهدة السلام، وقد ربط الأردن تاريخياً موقفه من التسوية السلمية بالحقوق الفلسطينية، بخاصة إقامة دولة وموضوع القدس واللاجئين. وطالما أنّ الأمل أصبح بعيداً تماماً في الوضع الراهن، وضمن موازين القوى الحالية ومواقف القوى الدولية والإقليمية، وحتى العربية المتخاذلة، فإنّ الخيار الآخر هو مراجعة أوراق استراتيجية يمكن للأردن أن يستخدمها، وترد الاعتبار لدوره ومكانته، بعد أن حاول الإسرائيليون والعرب أن يتجاوزوه، وحتى التلويح ببدائل عن الوصاية الهاشمية!
أمّا ذلك التيار السياسي الأردني التقليدي الذي ما يزال يربط الأمن الوطني الأردني بالعلاقة الجيدة مع إسرائيل وبمصالح إسرائيل، وهو ربط غير مفهوم ولا منطقي وخارج سياق التطورات والتحولات الجيو استراتيجية المتلاحقة، فهو تيار يضعف الأردن، ولا يدرك ما يحدث حوله، ولا تزال رؤيته تقوم على منطق الدولة الوظيفية الضعيفة، المرتبط استقرارها وأمنها بالآخر، وأن الخطر هو من الجوار العربي، وهي قناعاتٌ عليها كلام كثير، لكنها، في أفضل الأحوال، ربما كانت تتناسب مع مرحلة الخمسينيات والستينيات وليس اليوم.
أما بعد، فقد دقّت ساعة الحقيقية واتضحت الصورة، ولم يعد التمسّك بأوهام وخيارات واهنة يخدم لا المصالح الوطنية الأردنية ولا الأمن الوطني ولا المصالح الفلسطينية ولا الحالة الداخلية.
العربي الجديد