ليس سهلا نعي الزملاء. تُفضّل أن تحتفظ بصمتك حزنا وعجزا. في النهاية، ترجح كفة كسر الصمت. كان أول نعي عند رحيل طارق أيوب، رحمه الله، عندما استشهد بقصف أميركي في بغداد. أيامها، حضرت شيرين إلى عمّان لوداع زميلنا طارق، وعزّتني به وعزّيتها به، ولم أكن أدري إني سأودعها بعد عقدين شهيدةً على يد احتلال آخر وشاهدة على جرائمه.
قضت شيرين ربع قرن، وهو نصف عمرها، توثق جرائم الاحتلال الذي استهدفها من المهد إلى اللحد، فقد ولدت بعد ثلاث سنوات من احتلال الصهاينة القدس. حرصت شيرين على تأكيد هويتها المقدسية، وعلى الرغم من حصولها على الجنسية الأميركية، إلا أنها حرصت على البقاء في القدس ومواجهة الاحتلال بوجودها الإنساني، رغم هشاشته أمام قسوة الاحتلال. وجدّدت قبل شهور جواز سفرها الأردني وهويتها المقدسية.
شيرين أبو عاقلة من القلة القليلة الباقية من مسيحيي القدس الذين كانوا يشكّلون أكثر من نصف سكان المدينه قبل المشروع الصهيوني الذي يعمل على تهويد المدينة، ويعمل على استئصال الوجود العربي فيها، مسيحيا كان أو مسلما، بشرا وحجرا. نجح الصهاينة في تدمير الوجود العربي المسيحي، وتمكّنوا من تهجير الأكثرية العظمى منهم، فلم يتبق غير نحو 3% في أقدس مدينة في المسيحية.
من المهم التحقيق في جريمة الاحتلال وإدانة المجرم، هذه مسؤولية الحكومتين اللتين تحمل جنسيتيهما، وأولاهما الحكومة الأميركية بكل نفوذها على العالم وعلى المحتل، تماما كما هي مسؤولية الحكومة الأردنية التي تحمل جنسيتها. وشيرين التي لم تتخلّ، على الرغم من القرار الأردني بفك الارتباط، عن المسؤولية تجاه أهل القدس الذين احتفظوا بجنسيتهم الأردنية العربية مقابل فرض الهوية الإسرائيلية. وهذا لا يعفي السلطة الفلسطينية من مسؤوليتها تجاه شيرين، وأقل ما يمكنها فعله وقف التنسيق الأمني الذي يحمي الاحتلال، ولا يحمي الفلسطينيين. ولا قيمة للجهود الرسمية بدون حراك الشبكة الواسعة من الصحافيين الأحرار في العالم. هذا وغيره من حراكٍ لا يعيد شيرين إلينا، ولا يقتصّ من قتلتها، لكنه أقلّ الوفاء لدمها وللشعب الذي كرّست حياتها له.
فوق ذلك، ليست الجريمة "قتل صحافي في منطقة اشتباك" تتطلب تحقيقا. نحن أمام جريمة مكشوفة هي الاحتلال الذي قتل أهل شيرين وشرّدهم من أرضهم وصادرها وبنى عليها المستوطنات، الاحتلال الذي عذّبها منذ لحظة ميلادها؛ فعاشت حياتها على أرضٍ محتلة، وتشاهد جرائمه.
ظلت شيرين صوت الضحية، بعيدة تماما عن كذبة الحياد الزائف، فالمساواة بين الضحية والجلاد نقيض الحياد والنزاهة والأخلاق. كان صوتها الهادئ الحزين يوثّق جرائم الاحتلال بمهنية وشجاعة ورصانة واتزان. لم تنافس الضحايا على حضورهم، ولم تقع في حفرة الشعبوية والمزايدة.
انتصرت رواية شيرين في النهاية، الصهاينة لا يواجهون إرهابا، إنهم الإرهاب الذي يستهدف امرأة صحافية عزلاء. انتصرت الكاميرا على الرصاصة، وليس الرصاص سواء، فعندما غطّت شيرين حصار مخيم جنين والمذبحة فيه في المرّة الأولى، غطّت رصاص المقاومة في مواجهة رصاص الاحتلال، لم تغطّ "اشتباكات"، لم تساو بين الشهيد أبو جندل وقاتله. ولم تساو بين المخيم الذي يسكنه من اقتلع أجدادهم من أرضهم والمستوطنة التي يسكنها محتلون غرباء. .. نحن لا نساوي بين شيرين وقاتلها.
خلال ربع قرن من الصمود والمواجهة، صحافية ومقدسية، دخلت شيرين كل بيت، وصارت جزءا من حياتنا، هي ومن تمثلهم، شهداء وأمهاتهم وأطفالهم، الأسرى ومن ينتظرهم، المقاومة وأبطالها، القدس المخيمات الحواجز الجدار العازل .. تعبت وأتعبت.
وداعا شيرين، آن لك أن ترتاحي.
(العربي الجديد)