مهما طال انتظارها فقدومها، الأهم ان تأتي قبل صحوة الموت؛ فعند صحوة الموت لا ينفع الندم، وقتئذٍ تُكشف كل الحقائق المخفية التي نغفل عنها، (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)، وسيمر شريط كل الماضي بعين مبصرة حزينه. الصحوة صحوتان، احداهما لدنيانا، وهي مقصد مقالي هذا. والثانية صحوة الموت، التي لا حياة بعدها.
صحوة الدنيا تعني الكثير، تعني ان نصحو فعليا ولا نغفل تجاه مسؤلياتنا وواجباتنا في الدنيا وتدبيرنا لأمورنا، فلن يحمل همومنا واوجاعنا اناسٌ غيرنا، قد يتعاطف البعض القريب معنا معنويا او احياناً مادياً لمرة أو مرتين، ولكن ليس دائما وليس كما يجب، صحوتنا وللاسف تأتي دائما بعد ان يضرب الحنت المخفي هاماتنا فجأة، فتكون الصحوة متأخرة والهداية بأثر رجعي. فكيف نصحو ومتى؟
الصحوة ان تعرف كيف تدير رزقك، وتحافظ على قرشك، فتترك الكماليات وتهتم بالاساسيات، لن تصرف الحكومة لك راتبا اضافيا لتغطيها - الا ما ندر، والتدبير نصف المعيشة، فلا داعي لسيارة فارهة لا تقدر على شراء وقودها، ولا لبيت واسع لا تسكن الاغرفة منه، ولا لطعام كثير ترمي اكثر من نصفه في الحاويات، ولا داعي لعشر اطقم من اللباس لا تلبس الا اثنين او ثلاثة منها، ولا داعي لخلوي بألف دينار بينما ذو مئتين يكفيك بكل ما تريد، وهكذا تسير الحياة بأدنى الكمال، ان لم تكن بأعلاه نسبة لما تبرمج عقلك الباطني لهدفك من الحياة، أن تحيا لتعيش ام تعيش لتحيا.
الصحوة ان تعرف كيف تدير وقتك ولا تضيعه، لن تفيدك وسائل التواصل الاجتماعي الاليكترونية كثيرا، ولن تفيدك ملاهي الدنيا مالم تعمل وتجتهد، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضه، دعك من متابعات النسخ واللصق المكررة، ودعك من نظريات النصائح المنقولة التي لم يطبقها كاتبوها او ناقلوها لتطبقها انت قارئها، فلكل زمن ظروف مختلفة واحوال غريبة، وجب ان تتكيف معها، لا مع ماضٍ مضى عاشوه ابناؤه بسعادة، وتركوك تذكره بحسرة، وقتك هو ملكك انت، تماماً كما هو مالك، فاصرفهما بما يسعدك انت، ولا تكترث لوقت غيرك او حتى لماله.
الصحوة ان تعرف كيف تربي ابناءك، علّمهم الاعتماد على النفس والاستقلالية، لا تتابعهم بكل صغيرة وكبيرة، دعهم يخسرون او يفشلون مرة او مرتين، حتى يتذوقوا طعم النجاح الحقيقي المتولد ذاتيا، عندها تكون هدايتهم وتنهض صحوة قلوبهم من نومها، وتنشئ منهم جيلا قادرا على تحمل مسؤولية القيام بواجباتهم بدون متابعه حثيثة، بل بارشاد مقتضب وقت اللزوم وعند طلب المشورة فقط، لترتاح لعيشك انت ولتتركهم يمارسون حياتهم هم، فلا تزر وازرة وزر اخرى، ولم تخلقهم انت بل خلقهم الله الذي يدبر امورهم، فاصحو وكن ناصحا لهم ومرشدا، وليس مندوبا عن الله لحياتهم، (لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله)، الا ترى أهل الغرب الاوروبي والامريكي يخلون مسؤوليتهم عن ابنائهم بعد سن الثامنه عشرة؟ ألم يقال في تربيتهم: لاعبوهم لسبع، واضربوهم لسبع، ورافقوهم لسبع، وبعد السبع الثالثة لا يوجد شيء سوى حسن الجوار وبالوالدين احسانا، فللبيت رب يحميه ويرزقه، فكن رب اسرة لا رب كون وتدبير.
الصحوة ان تتعلم كيف تكون صادقا بعملك، فتنجزه صحيحا من اول مرة، لكيلا تضطر لاعادته مع خسائر مضاعفة، خسائر وقت وومال وجهد، وتكون قدوة بذلك لغيرك، ينمو اقتصادك الشخصي، واقتصاد بلادك، مهما كان العمل بسيطا او غير ذي اهمية، يكفي انه الجهة التي تخصك انت، فلا تقارن عملك بأعمال غيرك. فالناس درجات ومقامات، وكل محاسب على قدر ما حمل، او غلّ او غش، او استؤمن فأحسن او خان.
الصحوة ان تبتعد عن مناكفات الاقوال وتهتم بما هو مفيد، كن صامتا لا تناقش كثيرا، ووفر طاقة الهذيان بكلام لا ينفع، ليصار الى طاقة عمل مفيدة، او طاقة تفكير متعمق لتخطيط سليم يتبعه تنفيذ حسن، كن كالأجانب او كالأجداد، كثير العمل والتفكر قليل الكلام، تصحو لديك كل منبهات النجاح والتقدم.
الصحوة ان تقرأ وتتعلم العلم الموثق من الكتب وتجارب الناجحين ممن سبقوك من البشر، اقرأ قرآنا أو حديثا نبوياً، طالع روايات لمشاهير، تابع فيلما حائزا على جائزة اوسكار، او تابع مسلسلا ذا هدف اجتماعي نبيل، تعلم من اخطاء غيرك، لتتوفر لديك اوقات اضافية كانت قد تضيع بتكرارات مجربة فاشلة، فالمؤمن بمبادىء شيء ما يتعظ بغيره فيه، والحياة قد لا تكرر لك فرصا مستهلكة اكثر من مرة، فإن وافق توقيتها ما اعددت لها من امكانيات، كانت الفائدة عظمى.
الصحوة ان تعي ما يدور حولك، بيئتك، مجتمعك، والاشخاص، ابعد عن السلبية فيهم وخذ منهم ما هو ايجابي مفيد فقط، بلا مقارنات ظالمة ولا مهاترات مهلكة للعلاقات بينكم، فالكل راحل والحياة قصيرة، ولا يبقى الا الاثر الطيب وحسن الخلق. فاعتزل من يؤذيك وما يؤذيك منها، واقترب من كل ما يسبب لك سعادة ولو لحظات معدودات. تلك حياة للنفس وذيك موت لها، فاصحو لمن حولك، فهم اما بناء يعلو او معول يهدم.
الصحوة هي الهداية لما هو كل خير رغم ازدحام الشرور والفساد، لا عليك بغيرك، فالكل محاسب على اعماله واقواله، يكفيك نفسك وحياتك، عشها بكل راحة بال وانجاز ونجاح ما استطعت، فسوف تموت وحيدا وتبعث وحيدا، بلا قروبات واتس ولا مجموعات فيس بوك، ولا حتى اخ او زوجة او اب او ام او ابن، فهم لم يولدوا معك ليبعثوا معك، هم رفقاء درب تنتهي صلاحيتهم بانتهاء الدرب الا من حسن تعامل او احسان بمعروف. فالسعادة طريق شائك يحتاج لتفكير عميق، وبرمجة ذاتية، وصفنات بخلوات مرات ومرات.
الصحوة ان تبتسم لكل ما يأتيك، ولا تندم على مافاتك، (لكيلا لا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتكم)، فلكل مساره وتوقيته، رزقه واجله، فارتح تغنم، وارضَ تكسب، وعش لحظتك الحاضرة، قبل ان تصبح ماضي حزين، ولا تستعجلها او تستقدمها من المستقبل، وانت لا تدري كيف ستكون.
خلاصة القول؛ لأن تأتي صحوتنا متأخرة أفضل من ان لا تأتي اطلاقا، ولأن تأتي باختياراتنا افضل من ان تأتي بحنت مخفي يقصف جباهنا، ولأن تأتي قبل صحوة الموت افضل من صحوته المقلقة التي لا يعقبها عمل او قول يعوض ما اخطأنا قبلها، وبالنهاية لن يموت انسان بلاصحوة، فاجعلها من البداية لترتاح في النهاية، فما اطال النوم عمرا ولا قصر بالاعمار طول السهر، هذا ليس كلاما مثالياً، فكلنا يغفو، ولكنه تذكير بالصحوة - ولو متأخرا.