هل تجتاز مدينتنا الوردية الامتحان .. ؟؟
03-07-2007 03:00 AM
مدينة البتراء في عالمها السحري المبهر ، وتاريخا العريق الغير المدون ؛ تبحث عن مكان لها بين عجائب الدنيا السبع ، فقد كانت البتراء إحدى عجائب الدنيا قبل أن تعرف العجائب ، إلا أن البتراء هذه الدرة الغالية كانت مدفونة في غياهب النسيان إلى أن اكتشفها الرحالة الأجانب ، ولا تزال إلى اليوم لا نعرف من كنه تاريخها إلا القليل ، ولم نركز على تاريخها العريق وحضارتها العجيبة ، رغم أن لنا تاريخا طويلا وثقافة قديمة وإعلاما يدعي القدرة على التأثير ، والسؤال هو هل سنكون بمستوى الحدث وتفوز البتراء بالسبق العالمي ؟ . أتمنى أن ينال هذا المكان الساحر حقه ، والذي عرفه العالم قبل أن نعرفه ، وعرفه الرحالة قبل مؤرخينا . تعالوا بنا نطوف بتاريخ الأنباط البتراء حيث صنع المجد والتاريخ . مع دعوة أن نكون بمستوى الحدث لتفوز البتراء ، وإننا متفائلون إن شاء الله . والآن تعالوا بنا نلقي الضوء على تاريخ الأنباط البتراء، المدينة التي أذهلت العالم قوة واقتصادا وثقافة وعمرانا وديانة حتى إنها أبدعت الحرف العربي. قدم لنا إحسان عباس رحمه الله قدم بحثا عن الأنباط لمؤتمر تاريخ بلاد الشام عام 1987 ، وقد قال رحمه الله عن دولة الأنباط : ... لم أجد شيئا يشفي الغليل عن دورها التاريخي والحضاري ، مكتوبا بالعربية \" . وقد عرض بحثه على الدكتور عدنان البخيت والدكتور كمال الصليبي ، وحصل على مصادر من نيويورك وتوبنجن في المانيا ومن كيمبردج ، ونتائج الحفريات . وقد علق الأستاذ إحسان قائلا : \" ليس من السهل أن نتصور امة لم تخلف لنفسها تاريخا مدونا\" ويضيف : \" إذ لولا العلاقات الخارجية التي دخلوا فيها مع جيرانهم لم نكد نعرف من أخبارهم شيئا مكتوبا \" . ويمكننا القول إن المعلومات المفيدة عن الأنباط وردت عند المؤرخ ديودور الصقلي وعند الجغرافي المعروف سترابو ، إذ أن ديودور كتب عن الأنباط في القرن الرابع قبل الميلاد ، نقلا عن هيرونيموس القارديائي ، أما سترابو فقد أعطانا فكرة عن أحوالهم في القرن الأول الميلادي ، وقد اخذ عن اغاثرخيدس القنيدوسي ، واثنودور الطرسوسي الذي عاش في البتراء ، وعن ايليوس غالس ، وبين القرن الأول والرابع المعلومات تكون نادرة ، وردت في سفري المكابيين ، ولدي يوسيفوس في كتابيه حروب اليهود وآثار اليهود ، فقد تحدث عن الأنباط أيام حروبهم مع الدولة اليهودية ، ومن المصادر القديمة \" كشاف البحر الأحمر \" لمؤلف مجهول ، وبعض النتف عند بليني وابيان وديو كاسيوس وفلوطارخس ، إلا انه وجدت لهم نقوش في البتراء والمناطق التي سيطروا عليها ، مثل : بترا والحجر وسيناء وحوران ، كشفت جوانب من تجارتهم وكتاباتهم ولغتهم وأسماء الأعلام وأسماء الأرباب التي عبدوها وأسماء عدد من ملوكهم وملكاتهم ، وبعض شعائرهم الدينية ، ومن آلهتهم اللات ربة المكان ، أما الآثار التي خلفوها من هيكل وقبور وتماثيل ورسوم وخزف ومصنوعات معدنية ، فقد كشفت مستواهم الصناعي والحرفي ومهارتهم هم المعمارية ، أما الكتابات المعاصرة فنقول أن البتراء قبل عام 1929 لم تكن تتعدى مشاهدات الرحالة ، وقد كشفت خزنة فرعون سنة 1936 ، وقد ساهم الأستاذان الأردنيان نبيل الخيري وفوزي زيادين بكشف الكثير من الآثار . وكشف نلسون غلوك معبد خربة التنور . وان مصادرنا العربية التي تحدثت عن فترة قبل الإسلام لم تذكر الأنباط ، فقد ذكرت المصادر العربية قوما يسمون النبط ، وأنهم عاشوا على المشارف الشمالية للحجاز ، وإنهم حاذقون في الزراعة وفي استنباط المياه واستخراج المعادن ، والصيغة التي تتردد في النقوش هي \" نبطو\" ووردت مسميات نبط ونبايوت ونبايتي ، وأكثر المعلومات تشير في فترة وجود الأنباط إلى الأدوميين وبنو قيدار الذين يقول البعض أنهم ثمود أو فرع من ثمود ، وربما هم الذين جابوا الصخر بالواد والواد هو الحجر ، وتعني لفظة جاب أي خرق الصخر ، ( اقرأ في القران الكريم : الأعراف 74 و الشعراء 149 و الحجر 82 ) ويمكن القول إن الأنباط البدو أقاموا في بلد الأدوميين بعد أن انحسروا ، وقد اقتبس الأنباط عن الأدوميين \" آلهة الخصب \" ، وهم بلا شك قبائل بدوية ثم استقرت في البتراء لتوفر الكلأ والماء والأمان ، وقد اشتق الحرف العربي من الحرف النبطي ، وقد ثبتت عروبة الأنباط لأنهم عبدوا آلهة عبدها عرب الشمال مثل اللات والعزى ومناة وذي الشرى ، كما أن أسمائهم عربية خالصة . ويبقى السؤال كيف تحول هؤلاء البدو من حالة البداوة إلى حالة الزراعة ثم التجارة ؟ والجواب أنهم عرفوا نوعا من الاستقرار وبنوا سفنا وجابوا البحار تجارا ووسطاء ، ومن موانئهم الحوراء وأيلة على البحر الأحمر ، أول ملوكهم حارثة الأول ، ومن ملوكهم عبادة وايل ومالك .
أما الرقعة الجغرافية التي شملتها دولة الأنباط فهي من العلا جنوبا إلى شمالي سورية ، وكانت لهم جاليات في نابولي ومصر واليمن وهجر ، وقد وجدت آثارهم في النقب وبصرى وجبل التنور جنوبي الحسا وذيبان ورم وعين الشلالة ومدائن صالح أي الحجر وذات راس والربة والمشيرفة وخربة براك وأم البيارة . وهناك الكثير من الكتب الحديثة عن الأنباط ككتاب براوننغ 1982 ونلسون غلوك 1940 وكاميرر 1929 والكسندر كيندي 1925 وميري مارغريت 1939 وروبنسون 1930 وهناك أكثر من خمسين بحثا عن الأنباط، أما المراجع العربية الحديثة فمنها : جواد علي ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ولطفي عبد الوهاب يحيي ، ومصطفى كمال عبد العليم ، وسيد علي الناصري ، ورينيه ديسو ، وإحسان عباس تاريخ دولة الأنباط . وهناك فرق بين الامتداد السياسي للأنباط والامتداد الجغرافي والتجاري .
الأنباط قبيلة عربية بدوية اهتمت بداية كمثيلاتها من القبائل البدوية بتربية الماشية، وكانت تتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن المراعي، شأنها شأن القبائل العربية المرتحلة طلبا للكلأ والماء والأمن، وما لبث الأنباط أن غادروا شمال الجزيرة العربية، وبعد أن تفرقوا فوصل قسم منهم إلى منطقة البتراء ، وتعايش مع الأدوميين الذين كانوا يعيشون على أرضها في مدنهم وقراهم. وتمتعت تلك المنطقة بحكم موقعها الجغرافي بين مصر وفلسطين وشبه الجزيرة العربية والعراق وسوريا بالازدهار، وقد أغرتهم الحياة التجارية لما فيها من كسب مادي ورفاهية معيشية فتركوا حياة البداوة وأصبحوا تجاراً، وأخذت قوافلهم تجوب الصحراء حاملة الذهب والفضة والحجارة الكريمة والبهارات والأخشاب الثمينة من بلاد فارس وجنوب شبه الجزيرة العربية، كما كانت تحمل البخور والمر من حضرموت.
ولم يلبث الأنباط أن وجدوا في البتراء الحالية مستقراً لهم يخزنون فيها بضائعهم ويحتمون بين أرجائها.
وإذا كانت بداية ظهور الأنباط باحتلالهم مواطن الأدوميين في القرن السادس ق .م . م، فان الظلام يحيط بحوالى ثلاثة قرون من بداية تاريخهم، لذا لم تصلنا أخبار عنهم قبل ما أورده ديودور الصقلي، وهو يعرض لهم في القرن الرابع، حين بدا احتكاكهم بالسلوقيين، وإنهم لم ينخرطوا حتى ذلك الحين بحياة الاستقرار والتجارة ، وإنما بقوا متمسكين ببداوتهم، إلى أن اشتعلوا بالتجارة والزراعة فأصبحوا أثرياء من تجارتهم وزراعتهم بعد ذلك، فباتت ثروة الأنباط مثار حسد فطمع فيها أحد قادة اسكندر الكبير أنتيغونس (306-301) فأرسل جيشا يتكون من 600 فارس وأربعة آلاف من المشاة بقيادة \"اثينيه\" كي يحتل البتراء ويستولي على كنوزها.
واستغل الرومان خروج الأنباط من بلدتهم في الأسواق المجاورة وانقضوا على المدينة ونهبوا ثروتها وهرع أحد الناجين وأبلغ الأنباط بالمأساة وعاد هؤلاء مسرعين ولحقوا بالجيش المعتدي الذي كان قد استسلم للنوم بسبب النعاس والتعب فقضوا عليه عن بكرة أبيه ولم يفلت منه إلا خمسون فارساً واستعادوا بذلك كل ما قد نهب من مدينتهم.
وقد شهد عام 90 قبل الميلاد قيام معركة دامية بين عبيدة الأول ملك الأنباط وألكسندر جانيوس على مقربة من شاطئ بحيرة طبرية الشرقي، فانتصر عبيدة واحتل جيشه المنطقة الجنوبية من سوريا (الأردن وجبل الدروز). وفي عام 87 ق م أراد أنتيغونس الثاني عشر ديو نزيوس القضاء على مملكة الأنباط، فالتقى في مؤتة بجيش من عشرة آلاف رجل بقيادة الملك رابيل ولقي أنطيوخس حتفه في المعركة وتشتت جيشه ومات عدد كبير من أفراده جوعاً وعطشاً.
وفي زمن الحارث الثالث (87-62 ق م) وصلت الجيوش النبطية إلى القدس وحاصرتها، كما وصلت إلى الشام، وقام أهل الشام بسك عملة جديدة تخليداً للملك العربي تحمل على أحد وجهيها صورة آلهة النصر واقفة وإحدى الآلهات جالسة على صخرة ينساب منها نهر إلهي كما وضعوا الكتابة التالية إطاراً تحت الصورة: \"الملك الحارث\" .
وقد اتسعت مملكة الأنباط وامتدت من وادي السرحان شرقاً إلى نهر الأردن غرباً ومن البحر الأحمر والعلا جنوباً إلى بلاد الشام شمالاً، وتأثرت بحكم موقعها الجغرافي بالحضارة اليونانية وأصبحت عاصمة الأنباط البتراء مدينة تفوق المدن العشر جمالاً. وحاول الرومان غزوها والقضاء على استقلالها فأرسلوا جيشاً بقيادة اميليوس سكاورس الذي تراجع بعد أن قدم له الأنباط مبلغاً من المال.
وقد عثر على عملة سكت في روما يعود تاريخها إلى سنة 58 قبل الميلاد، نقش على احد وجهيها الملك الحارث ممسكاً جملاً بيده، جاثياً على إحدى ركبتيه وماداً سعف نخيل، تبين أن النفوذ الهيليني السياسي والعسكري قد زال وحل محله النفوذ الروماني. وعندما كانت الجيوش الرومانية تحاصر القدس أرسل الملك ملكس الثاني ألف فارس وخمسة آلاف من المشاة لمساعدتها، إلا أن الرومان لم يكتفوا بما كانت تقدمه مملكة الأنباط من تأييد ومساعدات فطلبوا المزيد، وعندما رفضت قضوا على استقلالها سنة 105 في زمن الإمبراطور تريانس وأسموها \"المقاطعة العربية\".
وقد نقل لنا التاريخ أخبارا عن تطور الأنباط التجاري، فبين أنهم لم يكتفوا بنقل المتاجر برا، بل بنوا لهم سفنا ، وبلغوا موانئ اليمن لينقلوا السلع إلى الميناءين العائدين لهم في شمالي البحر الأحمر وهما ميناء الحوراء وميناء أيلة أي العقبة ، ولم يهدد احد مصالحهم التجارية حتى استولى البطالمة على ميناء أيلة ، وحالوا بين الأنباط وبين الوصول إلى البحر الأحمر .
كما مارس الأنباط مزاولة حرفة أخرى هي استخراج القير أو الإسفلت من البحر الميت وبيعه إلى المصريين خاصة، لاستخدامه في أعمال التحنيط، كما برع الأنباط بالكتابة وتطوير الخط العربي، الذي عرف بالحرف النبطي، وتفوق الأنباط أيضا بفن النحت فقد أشادوا بيوتهم بالصخر، وكان لهم نظام إداري متميز، وكيان سياسي متطور، وأصبح الملك لديهم ملكيا، ويتمتعون بقدر كبير من الديمقراطية.
أما بالنسبة لملوك الأنباط؛ فالسلسلة في قائمة الملوك تنقطع لفترة كبيرة، وهناك محاولات لإحصائهم وتحديد سنوات حكمهم، فقد كان أول ملوكهم حارثة الأول، واسم حارثة من أكثر الأسماء التي تكررت عند ملوك الأنباط، وقد جاء في التوراة ذكر حارثة زعيم العرب، ومن ملوك الأنباط حارثة الثاني، الذي ذكره المؤرخ يوستين انه سيد قوم من العرب، والملك عبادة الأول ورب أيل الأول وحارثة الثالث الذي ضمت في زمنه دمشق إلى دولة الأنباط، كما ضم الأنباط إلى دولتهم منطقة لبنان الشرقي التي عين فيها حاكم مقيم نيابة عن الملك النبطي، كما سيطر الأنباط في عهد حارثة الثالث على جنوبي لبنان وشمالي فلسطين إلى مدينة يافا.
وحكم بعد حارثة مالك الأول الذي لجأت إليه ابنة هيركانوس لمساعدة أبيها في استعادة ملكه، وانتزاعه من هيرود. وتلا حكم مالك الملك النبطي عبادة الثاني، الذي شهد عهده الحملة الرومانية على بلاد العرب الجنوبية بقيادة غالس، وتلا مالك الملك حارثة الرابع الذي أصبح عهده أزهى عهود الدولة النبطية ، فقد شهدت الدولة نهضة عمرانية واسعة ، خاصة في الحجر ومدائن صالح في شنالي الجزيرة العربية ، وقد حارب هذا الملك هيرود ، وتلا مالك الثاني الملك رب أيل الثاني الذي كانت أمه \"شقليت\" وصية عليه لصغر سنه ، وقد نقل رب أيل نشاطاته إلى بصرى التي كان يقضي أكثر وقته فيها فأصبحت عاصمة للأنباط ، وكان آخر ملوك الأنباط الملك مالك الثالث .
ويمكن تحديد الرقعة الجغرافية لدولة الأنباط التي بلغ أقصى اتساع جغرافي لها في أيام الملك حارثة الرابع ، إذ ضمت منطقة واسعة إلى الجنوب من بترا إلى أن وصلت إلى العلا وكان وجود الأنباط واضحا في منطقة النقب ، كما امتدت إلى الشمال إلى أن ضمت دمشق ، وشملت حدودها موانئ البحر المتوسط وسيناء وموانئ مصر وساحل البحر الأحمر شرقي نهر النيل . وكان للأنباط في مصر جالية كبيرة لها كاهنها ، وكان لهم جمالون من نقلة السلع ذهابا وإيابا بين مصر وبترا ، كما وصل امتداد الأنباط إلى حوض البحر المتوسط ، حتى انه كان للأنباط جالية ومعبد في بتيولي في ايطاليا ، وكانت صلاتهم التجارية قد وصلت أواسط آسيا والهند ، وقد ظهرت نقوش الأنباط في سيناء والنقب ولا تزال إلى اليوم .
وقد امتد النشاط الاقتصادي من بترا إلى بصرى إلى دومة الجندل إلى أم الجمال ، إلى موانئ البحر الأحمر ، والبحر المتوسط ، والعراق وتدمر .
وهكذا دخلت البتراء الجميلة في سبات عميق طويل ، دام قروناً طويلاً واستسلمت لأشعة الشمس وللرياح العاصفة ، منتظرة من يتمتع بجمالها ويتأمل في تاريخها العربي المجيد. وهي تبحث عن مكان لها بين عجائب الدنيا السبع الجديدة ، وهي تستحق ذلك حقا .