ليس سهلاً أن تحرس المجد
النائب الاسبق د. بسام البطوش
28-04-2022 11:38 AM
في تاريخنا الوطني نماذج مشرّفة للنزاهة، والتنسّك في الخدمة العامة، وهناك أسماء تعرفها الجمهرة العامة من الأردنيين، ويُساهم الاعلام في تسليط الأضواء عليها، في حين هناك حكايات ماجدة في خدمة العشيرة والديرة، وبمصطلحات الزمن المدني خدمة المواطنين والوطن، لكن، وإن جهلها أهل السرايا؛ فإن أهل القرايا يعونها ويقدّرونها.
بعد وفاة والده الشيخ ذياب بن سليمان البطوش، كان الشاب عبدالكريم ابن التسعة عشر عاماً، على مفترق دروب الحياة؛ فهل يغادر قريته طلباً للعلم، أو الوظيفة أو الجندية كغالبية أبناء قريته وجيله؟ أم يرابط في ديرته حارساً لمجد الأباء والأجداد؟ إنها الخيارات الصعبة، لكن مجداً تعطّر بدم الشهادة يستحق أن يُحرَس، فما الحكاية؟
يوم قامت الهيّة الكركية (1910 -1911)، تقدّم جدّه (الشيخ سليمان بن إسماعيل) صفوف أبناء العشيرة والكرك لرفض سياسات الاتحاد والترقي، وإجراءاتها الإدارية والمالية الماسّة بحياة الإنسان العربي على امتداد أرض الأمة، فحملت الكرك راية الرفض المبكّر، وتمردت على العنجهية والطغيان. ورفض شيوخ الكرك وأهلها الضرائب الجائرة، و(تحرير) إحصاء النفوس، و(تحرير) تسجيل الأراضي والأملاك، والتجنيد الإلزامي، وجمع الأسلحة من بين أيدي الأهالي، فأنشد الشيخ سليمان بن إسماعيل البطوش وابن عمه الشيخ عبدالغني بن فلاح البطوش، مع العشيرة ومع الكرك: (يا سامي باشا ما نطيع)، وصمدوا في وجه حملة الفاروقي العسكرية، ولم يجبنوا، ولم يتراجعوا، ولم يفرّوا، ورغم شهامة عشيرتهم في التعامل مع الدورية التركية المرافقة للجباة، يوم وصلت قريتهم(حنزيرة/ الطيبة)، إلا أن هذه الشهامة قوبلت من العسكر الأتراك بالنكران و بإصدار حكم الإعدام بحق الشيخين سليمان بن إسماعيل وإبن عمه عبدالغني بن فلاح البطوش، ونُفّذ الحكم بهما في قلعة الكرك مع الشهداء الشيوخ: منصور بن طريف، ومحمد البحري، وذياب الجلامدة، في حين تم إعدام مجموعة أخرى من شيوخ الكرك في دمشق، وهم الشهداء الشيوخ: ساهر المعايطة، درويش الجعافرة، وعلي اللوانسة، وخليل ومنصور الذنيبات.
نحن أمام لحظة من لحظات المجد الحق، إذ تقدّم "الشيوخ" الصفوف، إنها الزعامة الحقة، المثقلة بأعباء التكليف والتشريف. وهنا، سطّر المجد بحروف من مجد ودم التعريف الحقيقي للزعامة والشيخة في العرف الكركي العربي الأصيل؛ فكانت بذلاً ورجولة وجوداً بالغالي والنفيس.
وواصل الشيخ ذياب بن سليمان درب والده الشهيد مرابطاً في ديرته يسوس ويقود مع شيوخ أفذاذ العشيرة والديرة ورواق الكرك الجنوب غربي ذائدين عن مجد تليد حاصرته الجغرافية، والبعد عن سرايا الكرك وسرايا عمّان لاحقاً، كما ظلمه من يعرفون دروب السرايا، واتقنوا رواية التاريخ من وجهة نظرهم حصرياً! واصل الشيخ ذياب والشيخ حميدة والشيخ عبدالقادر وإخوانهم من شيوخ ووجهاء العشيرة في هذا الجيل إشادة قلعة المجد المزنرة بالكرم والشهامة والاستقلالية فلم يتبعوا أحد، ولم ينخرطوا كما لم ينخرط أهلهم تاريخياً في تحالفات الشراقا والغرابا الكركية، بل شكّلوا جبهة مستقلة لها شخصيتها واعتباراتها ومصالحها وتقاليدها على قاعدة من الموارد غير الشحيحة - بمعايير اللحظة التاريخية - المسخّرة للكرم والشرف، ولعل كرمهم هذا صاغ واقعهم ومستقبلنا، ليأتي من يُطلق مقولة (هذه عشيرة أفقرها كرمها)! وأنعم وأكرم بها من مقولة! حمل الفتى عبدالكريم "أبا رعد" راية ذياب وسليمان وإخوانهم، كما حمل راية صحب ذياب وإخوانه الكثر من شيوخ الطيبة ووجوه الخير فيها، أجيال من صانعي المجد وحراسه.
لقد انحاز الشاب عبدالكريم لخيار الرباط في الديرة، وتفرّغ للخدمة العامة، بصحبة ثلة من رجالات الطيبة ووجهائها النبلاء من جيله وممن يكبرونه سناً؛ فكان أول رئيس للمجلس القروي في الطيبة عندما تأسس عام 1966م، وخدم في هذا الموقع لسنوات طويلة بمكافأة شبه رمزية؛ فكانت بدايات التنمية الخدمية، في المياه، والطرق، والمدارس، والعيادة، ثم المركز الصحي وشعبة البريد، ثم مكتب البريد، وغيرها، وبمرور الزمن تأسست البلدية عام 1974 م؛ فكان أول رئيس لها، وبقي رئيسها حتى 1988م.
وفي هذه السنوات الطويلة في خدمة ديرته وعشيرته، وضع بصماته في وجدان الناس، قبل أن يضعها في خريطة العمران والتنمية والخدمات، ولن تبرح مخيلتنا نحن أبناء ذاك الزمن صورة أبي رعد مرتدياً الفوتيك الكاكي يتابع في الفصول الأربعة، وفي الحرّ والقرّ كل منشأة أو شارع في الطيبة، ولن ننسى سنوات شق الطرق ورصفها بالحجارة قبل تعبيدها، وما زالت تلك الشوارع المرصوفة التي وقف رئيس البلدية على كل حصاة فيها من أفضل ما عرفته البلدة من شوارع.
وما عرفت الكرك ومحيطها من قضية اجتماعية أو خلاف عشائري إلا كانت لأبي رعد - بثقله المعنوي وتراث الاحترام الذي ورثه وراكمه، وما تمتع به من جرأة في قول كلمة الحق- وقفة اصلاح (وفك للنشب)، فكان مرجعية في الشؤون العشائرية والاجتماعية كلها.
ومن واجبنا ونحن نستذكر الراحل الكريم عبدالكريم بن ذياب بن سليمان البطوش أن ندوّن بمداد الوفاء والعرفان للراحل سجلاً حافلاً بالنزاهة ونظافة يد، والحرص على المال العام، فرغم خدمته شبه المجانية لربع قرن في المجلسين القروي(1966-1974م) والبلدي (1974-1988م) بقي عنواناً للنزاهة ونظافة اليد. ولما غادر البلدية تركها بلا ديون وفي رصيدها 80 ألف دينار عام 1988م، وهذا مبلغ كبير في موازين الزمان والمكان، ولم يفكّر رحمه الله في شراء مركبة لتنقلاته كرئيس للبلدية حرصاً منه على المال العام!
خرج الرئيس للمجلسين القروي والبلدي على امتداد ربع قرن تقريباً من هذه الخدمة الطويلة بدون راتب تقاعدي، وتكرّس في الذهنية المجتمعية رمزاً للترفّع عن المكاسب الشخصية والسعي لها، ولم يكن يطلب لنفسه شيئاً، ولما كانت تتاح له الفرصة، وكثيراً ما كانت تتاح له الفرص، لم يكن يطلب الا للمصلحة العامة وللخدمات العامة للبلد وأهلها، ولم يفكر للحظة في منفعة خاصة. ولقد شرّفه وشرّفنا جلالة الملك وولي العهد بزيارته في منزله المتواضع في بلدة الطيبة في أول أيام رمضان 2012م، وكعادة أبي رعد بسط مطالب البلدة واحتياجاتها، وفي مقدمتها مشكلة العطش المستمر، وانقطاع المياه، فجاء الأمر الملكي ببناء خزان خاص للبلدة لتوفير حاجتها من مياه الشرب.
وكان لي الشرف أن العم أبا رعد بارك ترشيح العشيرة لي للنيابة في نهاية العام 2012م وساندني بثقله المعنوي المجحفل، بل خرج من بيته وسار بين الناس مؤيداً انتخابي، جزاه الله خير الجزاء، وجعله من عتقاء الشهر الفضيل، وأعاننا على فهم دروس حياته، والتعلم في مدرسته.