عندما يجري الحديث عن فرنسا يعلق في الذهن حدثان مهمان لا يمكن لذاكرة أحد أن تتجاوزهما، الحدث الأول هو الذكريات الغزيرة عن الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر ودول افريقية عديدة وحجم السادية والهمجية التي مورست ضد شعوب تلك الدول من قبل الفرنسيين، فبصمة فرنسا لا تزال حاضرةً في أذهان شعوب تلك الشعوب ويشهد عليها جماجم قادة المقاومة الجزائرية الذين قطعت رؤوسهم إبان ثورتهم على الاستعمار الفرنسي، والتي تعهد ايمانويل ماكرون بإعادتها في العام ٢٠١٧م، أما الحدث الثاني فعكس الأول تماماً، وهو الذي جعل فرنسا وعاصمتها باريس تستحق لقب بلد الأنوار، ليس فقط لأنها البلد الأول في أوروبا التي أضيئت شوارعها بالقناديل الغازية، بل لأنها واحدة من منابر العلم ومنارات الحضارة والثقافة ابتداءً من القرن الثامن عشر وحتى الآن، فمنها خرج فولتير والفيلسوف ديكارت وغيرهم، ومنها انطلقت الثورة الفرنسية ومبادئها، وهي ألهمت العديد من الشعوب على التحرر من الظلم وطغيان الأنظمة الحاكمة في ذلك الزمان، فهي من أسدل الستار على ظلمات العصور الوسطى ومهدت لظهور عصر التنوير الذي وضع أوروبا على طريق التقدم الحضاري.
لكن المتابع للانتخابات الفرنسية الأخيرة يصاب بالانفصام والحيرة، فالسؤال الحائر الذي يطرح نفسه، أين ذهبت فرنسا الأنوار وأين اختفت أمام هذا الهجوم الكاسح من اليمين المتطرف، والذي يمثل فرنسا السادية فلا يوجد في الساحة الرئاسية سوى اليمين أمام تراجع مهول للوسط واليسار فظهورهما باهت وهش، فقد ظهر ثقل اليمين المتطرف بواسطة مارين لوبين وإيريك زمور اليهودي الجزائري شديد التطرف، فحصلا في الجولة الأولى على ٣٠٪ من أصوات الناخبين، بينما حصلت مارين لوبين في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية على ٤٠٪ من الأصوات، أي ما يعادل ١٣ مليون صوت مقابل ١٨ مليون صوت للرئيس ايمانويل ماكرون، طبعاً كلاهما على أقصى اليمين، أي ٣١ مليون صوت تمثل اقصى اليمين واليمين المتطرف، وكلاهما يتمحور برنامجه الانتخابي على المهاجرين السود الافارقة والمسلمين والاتحاد الاوروبي، لكن ما يميز اليمين المتطرف بأنه يطرح ما يجول في خاطره دون مواربة، وهم كما يقول آلان غريش الصحفي الفرنسي مصري الاصل، الوحيدون الذين يمتلكون مشروعاً متكاملاً فحواه (نحن الشعب الفرنسي الأبيض ضد السود والعرب والمسلمين وضد الآخر بغض النظر عمن يكون) عدا عنهم لا يوجد تيار يمتلك رؤية واضحة وبرنامجاً قادرا على مجاراتهم.
هذا أمر مخيف أن يصعد تيار سياسي ببرنامج يتغذى على كره الآخرين، ويتعهد في كل خطاباته بالخلاص منهم إما بطردهم او بدعم انظمة سياسية استبدادية في افريقيا ودول العالم للحفاظ على الاستقرار فيها، كي تكون سداً ضد موجات المهاجرين بغض النظر عن حقوق الإنسان التي لا يتوقف الساسة الفرنسيون عن الحديث عنها، فهي تختفي هنا وتظهر فقط عندما يصعد إلى السطح أي خلاف بينها وبين تلك الانظمة، فهذا الآخر القادم من هذه العوالم المتخلفة يعامل كجرثومة ستلوث فرنسا إن هي دخلتها، وهنا سيحضر الى الذهن المفكر الأميركي صموئيل هنتجتون بكتابه صراع الحضارات، والذي يصور الوضع على أنه صراع حضاري في مركزه الغرب المتحضر والآخرون البرابرة يريدون تدميره، هذا هو جوهر قناعات هذا اليمين وهو مشابه لليمين الذي ساد أوروبا بين الحربين العالميتين وأدى الى نشوبها وبنفس النسبة ٤٠٪ وهو الآن يهدد بتأجيج الصراع العالمي على الأنا القومية، وفرنسا بما تملك من ثقل حضاري قادرة على قيادة ركب أوروبا والعالم، فهي فعلت ذلك في عهد الأنوار وبعده في عصر الاستعمار، والآن بصعود اليمين هي ايضاً مرشحة لقيادة أوروبا الى موجة حاسمة من التطرف والتي قد تقود الى حروب لا حصر لها، قد تنهي حضارة الإنسان التي ساهمت فرنسا ذاتها بانبلاج فجرها الأول، وبعد كل ذلك ألا يحق لنا ان نقول انه عار على فرنسا الانوار ان تكون المساهم الحاسم في عصر جديد من الظلام والسوداوية والحروب؟.
(الراي)