لماذا ينجحون بحياتهم ونفشل؟
د.م. أحمد محمود الحسبان
27-04-2022 12:09 PM
قدّر الله لي وشاء أن أعيش مغترباً في أميركا وبعض دول العالم الثاني ردحاً من الزمن ليس بالقليل، وخلالها رأيت فيما رأيت، وخالطت فيمن خالطت، بشراً مثلنا لا يختلفون عنا، لهم عقولٌ يفكرون بها، وقلوبٌ يحبون لها وبها، وأيد مثل أيدينا بعشر أصابع، وأرجلٌ يمشون عليها، واعين مبصرة كتلك التي في مقدمة نواصينا، وألسنةٌ كألسنتنا ولكن قلّما ينطقون بها الا للضرورة وبالصدق، فتساءلت لمَاذا ينجحون بحياتهم ونفشل نحن! لماذا يزدهرون و نتراجع! لمَاذا كانت دنياهم أحلى وأرقى، على العكس من حياتنا البائسة! وهل ما كان الدين - والعياذ بالله - يحثنا على اعمار الارض وبلا تنسَ نصيبك من الدنيا، ووعد المؤمنين بالحياة الطيبة. وبعد التفكير ملياً وسط الليالي الهادئة بين ظهرانيهم، متأملاً المناظر الطبيعة الخلابة خاصتهم، خلصت بنتيجة مفادها انهم يختلفون عنا خُلقا لا خَلقاً، ويختلفون عنا فكراً وعلماً. وهذا مقصد المقال.
فبالرغم من الجوانب المعتمة بحياتهم الاجتماعية والتي لا نرضاها ديناً ولا عرفاً، ولنكن واقعيين بالطرح بعيداً عن تفاهات القشور من التفكير السطحي الضحل، ولندع جانباً عوامل هامشية ما زادتنا الا خذلاناً، وما زادتهم الا ارتفاعا، فالبرغم من ذلك؛ إلا أنهم قومٌ علت اخلاقهم فعلوا، وارتفعت افكارهم فارتفعوا، وتسامى علمهم فتساموا، واحسنوا فيما بينهم فارتقوا جميعا، اخلاقهم الاسلام بلا اعتناقه، واوقاتهم القراءة والعمل بلا لهوٍ مُفرط ولا نوم عميق، يباشرون اعمالهم قبيل شروق الشمس، ونحن ننام بعد الفجر، قلّما تحكمهم الغيبة والنميمة واصدار الاحكام الغيابية على الناس، لم ينصبوا انفسهم قضاةً في الارض ولا جلادين، يعطون كل ذي حق حقه، وينأون بأنفسهم عن الظلم وسفاسف الامور.
الكل عندهم يُعامل بنفس المسافة من القانون السائد بشقيه الواجبات والحقوق. لا يوجد شرقي ولا غربي بينهم، جميعهم متساوون في مواقع المسؤولية او في المواطنة، فما دام الجميع يحملون نفس الجنسية للبلد، فهم سواء في كل شيء، قوانينهم المعمول به هي ذاتُ قوانينا المكتوبة ورقاً المنسيةُ واقعاً. هم شعوبٌ ارادت الحياة فعملوا لها، ونحن شعوبٌ ننتظر الموت على قارعة الماضي الجميل، وجمودِ الحاضر المؤلم، و صداعِ صدى قرع طبول المستقبل المرعب.
الاخلاق الرفيعة الفعلية والعلم النافع هي الموجهات الرئيسة لعيشهم الكريم، اخلاق التعامل الحسن المحترم مع الغير اتاح لهم المزيد من الوقت للتفرغ للعلم والنهضة والبناء، فانشغلوا بهذا عن ذاك، ونالوا التقدم والازدهار، وسادوا باقي العوالم بفكرهم واختراعاتهم ونضوجهم، وشمل هذا كل المستويات لديهم افقياً وعموديا، من أعلى المناصب لأدناها، ومن شرق البلاد لغربها، ومن جنوبها للشمال.
ومن أهم اخلاقهم الصدق، الصدق مع النفس ومع الغير، فهم قليلو الكذب، بل لا يكذبون فيما بينهم، ولا يخدعون بعضهم في تعاملاتهم، لدرجة انني ما عدت اطيق صدقهم ونقدهم لذاتهم قبل غيرهم، اخطىء انا مع أحدهم بكلمة في غير مكانها فيتأسف هو لي، لا يفهمني بسبب بؤس لغتي فيصف نفسه بسوء فهمه، وليس سوء ايصالي لفكرتي له، ليس لديه وقت للجدال والايذاء النفسي، هو مخلوق في حاله وشأنه، لا يكترث لمصائب او حتى انجازات غيره، قتلتني الغيرةُ من ذلك، وودتُ لو نكون بصدقهم وصراحتهم وسمو اخلاقهم وتواضعهم. ومن هذا ايقنت لماذا لم يُحدّ للكذب حداً في الاسلام، اذ لا حدَّ الجلد ولا قطع اللسان سيردع كاذبا، كاذباً بكلامه، وبماله، وزكاته، وصيامه، وبتعاملاته، و سرقاته، وخطاباته، ووعوده، وامانته، وشرف منصبه، وقسم طبه، وحسابات هندسته، وكل شيء يفعله، لذا كان حساب الكاذب على الله فقط، ولا طهارة له من كذبه الا عندما يلاقي ربه كذابا، عندها يصعق ويفاجأ بمعنى الصدق الحقيقي بلا خداع ولا تضليل.
تاريخياً، ما هلكت الامم السابقة الا بكذبها وتكذيبها، فكفارُ قريش عرفوا صدق بعثة محمد صل الله عليه وسلم ولكنهم كذبوه، وكانوا يعرفون صدق حديثه حتى قبل البعثة - وسموه الصادق الأمين، وكذلك كل الاقوام الهالكة مع الانبياء قبله، كلهم كذبوا رسلهم، لذلك تكررت في القرآن آية (ارسلنا اليهم رسولا... رسولنا... او باسمه..... فكذبوه)، اذن الكذب هو اساس الضلال، فالتخلف ثم الهلاك. حيث لم يعالج الاسلام الكذب الا بالهلاك في آخر مراحله، لذا قال تعالى (فأعرض عنهم وانتظر انهم منتظرون) اي قد بلغت يا محمد فانتظر بلا مزيد من التبليغ لانهم عرفوا وكذبوا، وهم منتظرون - عذابهم. وقال ايضا (لست عليهم بمسيطر..... ان الينا ايابهم ثم ان علينا حسابهم). فالكذب بجميع انواعه ونفاقه حسابه على الله، ولكن اثره الدنيوي هو الهلاك، والخلاص منه باتجاه الصدق هو النجاة والنجاح في الحياتين - الاولى والآخرة.
خلاصة القول؛ الكذب بجميع انواعه مهلكة للأمم وسبب تخلفهم وتأخرهم، واكاد اجزم ان الصدق مع النفس ومع الغير هو الاخلاقية الاولى على رأس هرم الاخلاق، وبداية كل نجاح، وبلا مزيد من جلد الذات، لو ان كل ناخب ونائب، ومسؤول ومرؤوس، صدق مع غيره في قوله وعمله وتعامله، ومع نفسه الامّارة بالسوء قبل ذلك، لما كان هذا حالنا، نائمون في كهوف التخلف والضياع، وعلى بُعد سنوات ضوئية عن آخر مصاف أمم هذا العصر الحضارية.