لهذه الأسباب.. هزيمة درامية ونصر عسكري
ما زال مفهوم القوة الناعمة غائباً عن العقلية الرسمية الاردنية, وللتوضيح فإن القوة الناعمة تعني الثقافة والدراما والموسيقى والحضور فيهما, فكلها ادوات تصنع قوة تفوق في طغيانها جبروت الآلة العسكرية, ولعل ما نراه من الدراما المصرية يؤكد ذلك, كذلك نجاح الدراما السورية في فرض ايقاعها, فنحن جميعا ليس كاردنيين فقط نتقن اللهجة المصرية والى حد ما اللهجة الشامية او على الاقل لا نحتاج الى ترجمة, وكل هذه الامور عوامل قوة, بل ان مسلسلاً مثل الاختيار وحده نجح في انقاذ سمعة وقيمة مؤسسات سيادية مصرية طالتها الجرافات الاعلامية سواء الاخوانية الصرفة او الاخوانية المدعومة بمختبرات واستوديوهات احدى القنوات العربية.
لم نلجأ الى مفهوم القوة الناعمة ولم يتأصل هذا المفهوم في حياتنا يوما, اقول ذلك وموسم الانتقاد للدراما الاردنية في قمته, وهو انتقاد يمتلك وجاهته, لكنه يفتقد الى التأصيل كما هو العرف الاردني, الذي يحاكي الظاهرة ويتجاوز عن السبب, ينحاز الى الفكرة ويبتعد عن مقاصدها, القوة الناعمة هي قوة ثقافية, بمعنى لا تأتي فجأة وتحتاج الى ادوات ابداعية اولها الارادة الحقيقية لاستخدام هذه القوة وثانيها العامل البشري ثم الامكانات المادية, ورأينا الهجمات المرتدة – وليست هجمة واحدة–من الدولة المصرية على مرحلة محمد مرسي وما تلاها ورأينا ردة فعل الدولة السورية على مرحلة العبث العالمي والاقليمي بالداخل السوري, وكيف نجحت الدراما وحدها في قلب الموازين, فمن ينسى الخربة وضيعة ضايعة ومن يجرؤ ان يغفل عن متابعة الاختيار و«العائدون».
الدولة ومنذ تأسيس نظامها السياسي كانت على علاقة مُلتبسة مع القوة الناعمة, فهي من جانب نجحت في توظيف الاذاعة الاردنية ضد صوت العرب, مستعينة باسماء ثقافية بارزة وذات جذر سياسي, فأزعجت النظام المصري, لكن معظم قادة تلك المواجهة او المرحلة, من جماعة الحزب القومي السوري «طارق مصاروة, جورج حداد» ناهيك ان الشهيد وصفي التل لم يكن ودودا مع التجربة الناصرية بل ان علاقته ليست طيبة مع عبد الناصر اساسا, وهذا له دلالته, فالحزب لا ينظر بعين تقدير لغير العروبة الشامية, ولذلك لم يعش التجربة الناصرية بلمعانها ولم يقع اسيرها,
وباستثناء مثقفي الحزب القومي السوري, فإن السلطة نجحت بمهارة في استعداء كل المثقفين المنتمين الى الاحزاب القومية واليسارية.
الركن الثاني من غياب القوة الناعمة ان السلطة نجحت في توفير بديل موضوعي للقوة الناعمة بمساراتها المتعددة, من خلال المنبر الديني, الذي منحته طوعا لجماعة الاخوان المسلمين, الحاقدين على التجربة الناصرية والمعادين للافكار القومية واليسارية, فأحكمت السلطة سطوتها على المشهد ولم تكن بحاجة الى كل اقانيم ومفاتيح القوة الناعمة, فذروة النجاح الدرامي اردنيا كانت ذروة عطش السوق العربي للمسلسل البدوي, وفي عصر الانتاج الذهبي للدراما المحلية, التي حققت نجاحا داخليا ولكنها لم تكسر الشرنقة للوصول الى العربية باستثناءات محدودة جدا, بمعنى لم يكن هناك جذر سياسي او منهج أمني لاستخدام الدراما او الفنون عموما كما في مصر رائدة القوة الناعمة او سورية.
من السهل ان نجلد الدراما الاردنية, فهي ركيكة وتم قتلها على مذابح متعددة, ليس اولها مذبح وزارة الثقافة, ولا ثانيها عدم تأصل مفهوم القوة الناعمة, رغم كل المتغيرات والظروف المحيطة بنا والتي تجبرنا على التفاعل والتعامل مع مفهوم القوة الناعمة, ولا آخرها الهويات الساذجة للدراما الاردنية مؤخرا, التي تتراوح بين ترقيق القاف الى الالف او تثقيلها لتصبح مثل صوت ماتور السيارة العتيق, او تفليحها على غرار ممجوج, الدراما الاردنية تحتاج الى هوية فنية والى مختبر سياسي لتعاود النهوض وقبلهما الى احساس في عقل الدولة انها الخيار الامثل لمعالجة مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية, ولذلك نعم مسلسل المشراف لا يليق بـ(الكرامة), فنصرنا العسكري هزمناه دراميا.
(الراي)