أمة لا تقرأ وأمية ذات وجه بشع تطل علينا لتجعلنا في مؤخرة الركب الإنساني وعلى هامش وجوده , هذه الحقيقة المرة يتلمسها كل واحد منا في محيطه الاجتماعي دون أن يضطر للاطلاع على الإحصائيات المتخصصة والتي تكشف عن أرقام تبعث على الخجل واليأس .في الوطن العربي يتم نشر ما معدله 30 كتابا لكل مليون مواطن سنويا بينما في اسبانيا يتم نشر ألف كتاب لكل مليون مواطن , وتتم ترجمة 350 كتابا في أقطارنا العربية سنويا بينما يبلغ عدد الكتب المترجمة في اليونان ذات ال 11 مليون نسمة 1650 كتابا , وعدد دور النشر الفاعلة في البلاد العربية لا يتجاوز ال 400 دار بينما العدد يناهز ال 15000 في الهند .
? اقرأ باسم ربك الذي خلق ?
شعار حضارتنا العظيم وعنوانها الأبرز لم يعد يشكل دافعا للقراءة وانغمست الأمة بعيدا عنه في لذة الصورة وسهولة المعلومة المحكية عبر شاشات الفضائيات , فهل يسأل سائل بعد ذلك لماذا نحن متخلفون ؟
في عام 1993 أظهرت بعض الأبحاث المتخصصة أن معدل القراءة بين الفرنسيين بدأ بالانخفاض فسارعت الحكومة ممثلة بوزير الثقافة وكافة أعضاء الوزارة إلى أقامة مهرجان " جنون القراءة " , مهرجان أقيم في الشارع شارك فيه المسئولون والمفكرون والمثقفون ومختلف طبقات الشعب ففتحت أبواب المكتبات العامة لإعادة زخم القراءة والتشجيع عليها .
لقد تلمس الفرنسيون مشكلة حقيقية سارعوا إلى مواجهتها وحصر أسبابها قبل أن تستفحل وتهدد عقلهم بالجمود والعودة إلى الوراء .
هناك قدسية من نوع خاص منحها الإنسان للكتاب منذ زمن بعيد , لان الكتاب هو منهل القراءة والقراءة تعني اطلاعا والاطلاع يعني أفكارا والأفكار تعني تغييرا والتغيير يعني تقدما إلى الأمام .
وكلما نمت الأفكار وازداد عدد حامليها وكفاءتهم كان مجال الصراع أشد , لكنه صراع سلمي يخرج في النهاية بما ينفع الناس وأما الزبد فيذهب جفاء .
هذا هو فكرمن ينشدون الحضارة والارتقاء إلى أعلى ذراها .
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه المقدمة , ما الذي يجعل الفرد العربي كسولا فيعزف عن القراءة ويسارع إلى الدعة والراحة والاستسلام لسلطان الأفكار الجاهزة والقوالب المتينة التي تجعل تفكيره محصورا في نطاق معين لا يملك أن يخرج عنه قيد أنملة ؟
ولماذا كل هذه الرقابة عليه وممارستها باتجاه واحد هو اتجاه رقابة نحن على أنا ؟ بينما الاتجاه الآخر ( أنا – نحن ) معطل تماما وسلوكه قد يعد أحيانا ضربا من ضروب الكفر والخيانة . هذا إذا سلمنا بأن " نحن " سالمة من العطب وتعبر فعلا عن الجماعة وتطلعاتها .
لماذا يحارب الكتاب وما الذي يجعلنا نعزف عنه , هل هو سبب فردي شخصي أم هو خطة عامة ذات تدابير وحيل ؟
ودعوني اسأل سؤالا ما الفرق بين الكلمات المختزنة في الكتب و الكلمات المقروءة على صفحات المجلات والجرائد ؟ لماذا تغلق الكتب و تحجم دور النشر بينما فضاء الصحافة مفتوح وكتابها كثيرون ؟
أنا اجزم أن القضية لها علاقة بالفكر والقدرة على إحداث التغيير وهذا بالضبط ما قصدته عندما قلت أن الكتب تعني قراءة والقراءة تعني اطلاعا ... إلى نهاية السلسلة .
فاكثر الصحف والجرائد في عالمنا العربي مراقبة تماما وما يكتب فيها هو كلام موجه بكل معنى الكلمة , قد يحوي نقدا أو عبارات تخاطب العاطفة دون العقل , لكنه في النهاية مضبوط بضوابط متينة ومحكوم باتجاهات لا يكاد يخرج عنها .
أما الكتب فلها شان آخر , إنها عالم لا يمكن السيطرة عليه , عالم قائم على ثقافة حقيقية ومنطق يحلل الأمور فيقدم للقارئ تفسيرا لكلمة " كيف " ولكلمة " لماذا " , والويل كل الويل لمن يبحث عن " كيف " و" لماذا " في هذا الزمن الأغبر .
والكتب كغيرها من الأشياء فيها الغث وفيها السمين , إلا أن عقلا يمتلك الحرية على التنقل بين صفحاتها والتجول بين رياضها سيكون قادرا حتما على أن يرد المنهل العذب ويجتنب المورد الخبيث , فلن يتكون فكر بدون إرهاصات و تعب ومجاهدة وصراع مع الباطل وذود عن الحق .
إن الكتب تخرج بالقارئ من عالم الأحلام الصغيرة والهموم الروتينية فتقدم له نظرة شاملة عامة تجعله ينظر للمشاكل من خارجها فيحيط بها علما , بدلا من أن يتقوقع داخلها ويحصر عقله في ثنايا تفاصيلها الصغيرة , فان امتلك هذه الرؤية العامة كان قادرا على النفاذ إلى اللب وفهم السلسلة كاملة من اصغر تفاصيلها إلى أكبرها.
ولا يفهمن أحد أن هذا تقليل لدور الصحافة , بل هو زفرة ألم تبين واقعا مرا نحياه فيحرم فيه المواطن من الأفكار ويتم توجيهه إلى شؤون أخرى وحصره في نطاقات ضيقة تظلم الصحافة وكتاب الأعمدة كما تظلمه هو على حد سواء .
نحن بحاجة إلى محللين سياسيين متمكنين من القيام بدورهم وهم موجودون بكثرة على صفحات جرائدنا , ونحن بحاجة كذلك إلى كتاب يخاطبون عواطفنا ويزيدوننا التصاقا بترابنا وأحلامنا البسيطة , وهم موجودون بكثرة واعتقد أنهم يعيشون الآن زمن الذروة خصوصا في الصحافة الأردنية , لكن النقص الحاد يكمن في حاجتنا إلى من يخاطب عقولنا في قضايانا المصيرية وينتهج نهج الإصلاح والتربية وهذا ما نفتقده بالضبط .
المربون محاربون والمصلحون مكممة أفواههم لأنهم الأقدر على التغيير ونقل العقل من مرتقى إلى مرتقى أعلى منه , بينتما الصنفان الأولان ( المحللون السياسيون والكتاب العاطفيون ) ينتهجون الجانب الوصفي الذي لا يقدم حلولا مبتكرة إلا ما ندر عند كتاب استثنائيين .
فان أفلس المواطن من الصحافة وعزف عن قراءة الكتاب فقد مناهل المعرفة وأساليب التربية واستسلم لطوفان الفضائيات أو التلفزيونات الحكومية التي تقدم له المعلومة الساذجة التي لا تحتمل الخطأ وتختصر معارف الأولين والآخرين على طبق من ذهب , كل ذلك وهو مضطجع على أريكته غائب عن الوعي والوجود .
نحن كسالى يا سادتي الاكارم , وأنا لا أريد من خلال هذا المقال أن اخضع نفسي لسلطان نظرية المؤامرة فأقول أن سياسات محاربة الكتب مبرمجة ومعدة منذ زمن بعيد , فهذا إن صح إلا أنه لن يكون ذا جدوى في وقتنا الحاضر والمسؤولية واقعة بمعظم ثقلها على الفرد البسيط الذي هو لبنة الأساس في بنيان الأمة , فالقراءة حرية فردية يمكن أن يمارسها أي شخص بعيدا عن أعين الرقباء والمتطفلين خصوصا في زمن الاتصالات المذهلة والفضاء المفتوح والانترنت الذي يضع العالم كله بين يديك ووسائل التخزين الحديثة التي تمكنك من حفظ مكتبة كاملة في قرص صغير تضعه داخل جيبك أو قطعة معدنية تعلقها حول رقبتك .
لقد آثرنا الدعة والهوان وتخلينا عن الحرية فاستسلمنا لقدر الكسالى الملقون على قارعة الطريق , لقد آن لنا أن نبحث عن الحرية من جديد , حرية امة أفرادها متطلعون إلى الأعلى فلا يحدهم سقف إلا السماء , إعلامهم متين وفنهم هادف وفكرهم رصين , حرية الجوارح وحرية والفكر التي جسدها شاعرنا بقوله :
أعز مكان في الدنا سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتاب
لله درك يا أبا الطيب فقد نشدت الحرية بجانبيها , حرية الجوارح وحرية الفكر فعبرت عن مفهوم امة كانت تعيش قمة القها الحضاري و الإنساني .
samhm111@hotmail.com