المؤسسة العسكرية الأردنية في ظل المتغيرات الدولية
سعود الشرفات
20-04-2022 07:09 PM
كانت وما زالت علاقة الجيوش في العالم مع المجتمع المدني مثار جدل ونقاش طوال التاريخ البشري. وكان التقاطع والتلاقي بين الطرفين محل دراسة ونقاش وسيبقى كذلك.
أظن أن بداية الافتراق والتفكير فيه بشكل منهجي ومؤسسي قد بدأت تاريخيا مع بداية تشكل الدولة القومية في أوروبا والثورة الصناعية. وقد استمرت العملية بمزيد من التجذر في المنظومة المعرفية الغربية حتى تجلت بشكلها المؤسسي في التطبيق السياسي الديمقراطي الذي نشهده في الأنظمة الديمقراطية في حقبة العولمة المعاصرة.
في الحضارات الشرقية ومنها العربية - الإسلامية ،كانت هذه العلاقة ملتبسة وهجينة أحيانا. وكان المحارب أو العسكري وما يزال يملك تلك الهالة من التقديس التي انزرعت في الذاكرة الإنسانية لهذة الشعوب من أساطير الآلهة المحاربين.
المهم ؛ ان هذه العملية والتجربة التاريخية، استمرت بالتدفق بلا انقطاع وأحيانا بتسارع فرضته التغيرات والتبدلات السياسية والصراعات والحروب خاصة بعد الحرب العالمية الأولى.
وكما في الغرب ؛خضعت هذه العلاقات الملتبسة للدراسة في المجتمعات العربية خاصة في مصر وسوريا والعراق واليمن والسودان والمغرب العربي، وكذلك الأمر في الكيان الصهيوني.
ومعلوم لكل متابع ان جزءً كبيراً من مكون النظرة السلبية للمؤسسة العسكرية كان يعود إلى مساهمتها في الانقلابات العسكرية وظهور القائد العسكري ليستلم السلطة من على ظهر دبابة، أو وهو يسيطر على الإذاعة والإعلام ثم يتبع ذلك القيام بمحاكمات عسكرية سريعة يعدم فيها الخصوم أو يزجهم في السجون فيما يهرب المحظوظين إلى الخارج. وحتما بأن هذا مشهد قاتم ومرعب وليس من السهل على الذاكرة الإنسانية نسيانه والقفز عنه.
وأظن ان التجربة الأهم حالياً هي التجربة المصرية لما لها من عمق تاريخي وتجذر وممارسات وادور معاصرة هائلة. خاصة في ظل حكومة السيسي. حيث نرى بأن المؤسسة العسكرية المصرية تتدخل في كل مفاصل الدولة من انشاء البنية التحية إلى الأمن الغذائي وليس انتهاء بالانتاج الفني.
في الأردن تماهى وتزامن استقلال الأردن مع ظهور" الجيش العربي"/ الجيش الأردني. وهناك اتفاق كبير بين الباحثين والدارسين لتجربة الأردن ان المؤسسة العسكرية الأردنية كان لها روافع واسهامات إيجابية في تشكيل بنية وسلوك الدولة منذ التأسيس.
ولأن الأردن كان ومازال في وسط "جغرافية الغضب" الجيواستراتيجية التي فرضتها سيرورة العولمة من تبدلات وتغيرات صراعّية عسكرية وحروب وتهديدات وتحديات لم تنته لأمنه الوطني؛ فقد وجد نفسه أمام الحقيقة الكالحة انه شبه وحيد؛ إلا من شعبه وجيشه في مواجهة هذه الحقيقة.
اليوم هناك الكثير من الحقائق والبراهين المعروفة عن الأدوار الايجابية التي قامت بها المؤسسة العسكرية في تأسيس نهضة الأردن خاصة في مسيرة التعليم والاستقرار والتحضر وادماج لكافة شرائح المجتمع في البوادي والارياف والمخيمات. ولا أظن اني أضيف جديدا في هذا الجانب الذي لا ينكره الا جاحد أو حاقد.
غير أن ما أود أن أضيفه هو أن المؤسسة العسكرية تحديدا من خلال مشاركتها في قوات حفظ السلام في العالم كانت من الأسباب الرئيسة في انخرط الأردن بعمق وسعة في سيرورة العولمة - الايجابية- حتى أصبح الأردن من أكثر الدول عولمة على المستوى العربي والدولي.
ولأن الأردن منفتح على العولمة بعمق فقد كان مثل غيره من دول العالم عرضة لاثار العولمة الايجابي والسلبي ومن ذلك الحروب والأزمات وموجات الهجرة واللجوء التي لم تنقطع.
ولعل آخر شرور العولمة هو انتشار وباء كورونا.
وهنا برزت وتجلت الأدوار الايجابية للمؤسسة العسكرية حينما عجزت بعض المؤسسات لظروف متعددة ومختلفة عن أداء ادورها المنوطة بها.
أفهم ان المؤسسة العسكرية قامت بخطوة تاريخية غير مسبوقة لمواجهة وباء كورونا بتطبيق نوع من ما يسمى" الأمنّنة" التي تنتقد كثيراً في المجتمعات الديمقراطية بحجة خطورة هذه الممارسة على مستقبل الديقراطية والحريات العامة وحرية الصحافة والإعلام. لكني أتفهم أيضا ضرورة هذه السياسة أحيانا خاصة إذا وجدت ضمانات عدم استمرارها بعد زوال الخطر والتهديد. والحمدلله نحن الآن في طور الموازنة باتجاه التخلص من هذه الحالة ونهاية سلسلة أوامر الدفاع.
غير أن التاريخ يأبى إلا أن يعيد نفسه دائماً؛ وغالباً على شكل مأساة. ونحن ان تعلمنا شيء من التاريخ فهو: اننا لم نتعلم منه شيء حسب قول هيجل.
اقول هذا وقد اشتعلت الحرب في أوكرانيا وعادت أشباح الحرب والصراعات وانقسام العالم إلى قسمين، وفي الوسط عادت صور المآسي، القتل والتدمير والهجرة القسرية واللاجئين وتوقف سلاسل الإنتاج العالمي ونقص الغذاء وأزمة الطاقة. كل هذا والعالم ما يزال أصلاً يعاني تداعيات أزمة كورونا.
من هنا؛ ووسط هذه الأجواء المظلمة يمكن لي أن أتفهم؛ لا بل اشجع المؤسسة العسكرية الأردنية على الانخراط أكثر في الاندماج المدروس والايجابي مع مؤسسات المجتمع والدولة المدنية في كافة القطاعات الإنتاجية : صناعية، وزراعية، وانشائية، وتكنولوجية، وتعليمية. والتوسع بالاستثمار في هذه القطاعات ضمن آليات محاسبة وحوكمة صارمة معروفة عند المؤسسة العسكرية الأردنية. خاصة وان موازنة المؤسسة العسكرية (موازنة الدفاع) ليست قليلة.
لقد علمت (من مصادر موثوقة) أن المؤسسة العسكرية قامت بخطوة تاريخية ربما غير مسبوقة بإعداد " رؤية استراتيجية لعام ٢٠٢٥م" بهدف تقيم الموقف الاستراتيجي للأردن يتناول التهديدات والتحديات والاتجاهات المستقبلية. وفي القلب من هذه الاستراتيجية يقف عنوان الاعتماد على الذات بالنسبة للأردن بشكلٍ عام ،والاكتفاء الذاتي لقواتنا المسلحة والاجهزة الأمنية سواء بالتصنيع أو التطوير أو المساهمة في الأمن الغذائي من خلال التوسع بدعم المشاريع الزراعية وانشاء أكاديمية للتدريب الزراعي، وصناعة الاسمدة والمبيدات الحشرية، وتحسين سلالات البذور والحبوب والحصاد المائي في جنوب وشرق المملكة.والاستثمار في زراعة الحبوب والاعلاف، هذا إضافة إلى الاستثمار في البنية التحتية وإنتاج الأسمنت، صولا حتى إلى مشاريع تحلية مياه البحر. وكل ذلك من خلال/ أو بالشراكة مع مؤسسات الدولة الرسمية والقطاع الخاص.
في الخلاصة؛ أعرف كما يعرف غيري من الأردنيين حجم موازنة الدفاع في الموازنة العامة للدولة الأردنية. وافهم كذلك الدور التقليدي للمؤسسة العسكرية (حماية البلاد والدفاع عنها ضد التهديدات والمخاطر الخارجية خاصة ...). وادرك كما يدرك غيري خاصة في المؤسسة العسكرية حجم النقد العلني والمبطن لحجم هذه الموازنة وسريتها - ربما- إضافة إلى حجم حملات النقد خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي الذي يوجه للمؤسسة العسكرية بحجة تخليها عن واجباتها الرئيسية والتوجه إلى الاستثمار.
لكن ما لا يدركه المنتقدين أو لا يريدون ادراكه؛ هو قدرة المؤسسة العسكرية على الرقابة والضبط لمصروفات هذه الموازنة، فالموسسة تعلم ان جلها يذهب رواتب وتقاعدات لألاف المنتسبين من الشعب الأردني، وتعرف على وجه الدقة بأن تكلفة المناورة العسكرية الواحدة يبلغ (٣) ملايين دينار، وأن تكلفة حماية كيلو متر واحد من الحدود الأردنية ضد الأخطار في الغرب والشرق هو مليون دولار.
كما أنها تدرك أفضل من غيرها؛ حجم الأعباء التي باتت ملقاة على كاهل البلاد نتيجة للمتغيرات والتحولات في العالم والاقليم مع استمرارية تداعيات وباء كورونا وارتفاع الأسعار ونسب البطالة والتضخم، والحرب في أوكرانيا والصراع مع العدو الصهيوني واستفزازته المستمره، والحرب على الجماعات الإرهابية، وحرب الكبتاجون وجماعات تهريب المخدرات.