"تمخض الجبل فولد فأرا".. قد ينطبق هذا المثل على إعلان واشنطن الباهت عن إطلاق مفاوضات مباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين, بعد أن اصطدمت مفاوضات "التقريب" بعجز أمريكا وتعنت إسرائيل.
ما يعنينا هو المخاطر التي ستنجم عن مقامرة خوض مفاوضات مباشرة بدون ضمانات بعد 19 عاما على انطلاق عملية سلام عاقر كانت أقرب ما تكون إلى لعبة "خذني جيتك".
فرغم الهالة الدبلوماسية والتفاؤل المعلن, لم توفر أمريكا الحد الأدنى من الضمانات لإنجاح هذه الجولة التي حددّ إطارها الزمني بسنة واحدة. والخطر القادم ما بعد فشل المفاوضات. إذ كانت أمريكا أبلغت حلفاءها العرب والفلسطينيين بأنها لن تدعم تلويحهم بنقل ملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة - التي اتخذت قرار إقامة دولة إسرائيل عام 1948 في سابقة لن تتكرر - إن فشلت في حمل إسرائيل على قبول السلام المستند إلى الشرعية الدولية.
اذن حال أمريكا مع الدول العربية كالمثل القائل "صحيح لا تأكل ومقسوم لا تقسم.. وكل حتى تشبع".
المؤكد حتى الآن أن الأردن ومصر, مارستا ضغوطا دبلوماسية على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بطلب من واشنطن لإقناعه بدخول نفق المفاوضات المباشرة طبقا للشروط الأمريكية المملاة من إسرائيل. وربما كان من مصلحة الأطراف العربية الثلاثة الصعود إلى الشجرة, أهون الشرّين, طالما أن النزول منها سيفضي إلى كوارث وتكسير أضلع.
فعباس وشركاؤه المأزومون قرروا خوض مغامرة سياسية غير محسوبة النتائج منعا لانهيار ما تبقى من مسرحية سراب السلام على أساس نصيحة أمريكا بأن الحراك وإدارة الأزمة أبرك من الجمود الذي يقوّي محور الممانعة بما في ذلك حماس, المسيطرة على "إمارة" غزة منذ ثلاث سنوات.
لذلك فإن قواعد لعبة المفاوضات العائمة التي ستنطلق في واشنطن بحضور الملك عبد الله الثاني وحسني مبارك بعد أن تدثر عباس بعباءة الجامعة العربية, لن تكون مختلفة عن سابقاتها منذ انطلاق قطار مدريد عام ,1991 بل ربما تكرار لمفاوضات أنا بوليس أواخر ولاية بيل كلينتون الثانية (1998).
فهي ببساطة ستكون عبثية ومضرة تحمل في طياتها بذور أزمات كارثية على الجميع, اللهم باستثناء تل أبيب وواشنطن.
هذا المنعطف نتاج ضغوط أمريكية غير مسبوقة على العرب في ظل تفشي سرطان الاستيطان وتهويد القدس التي تصر إسرائيل على أنها عاصمتها الأبدية, وأيضا انتصاب الجدار العازل وإجراءات التطهير العرقي وصولا إلى تحويل ما تبقى من الضفة الغربية إلى جبنة سويسرية بسبب غياب مرجعية ملزمة واضحة لانسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران .1967
معلوم أن أي مفاوضات لا تستند إلى منطق القوة, القانون الدولي وقرارات الشرعية الأممية ستكون عبثية. وستكون مضرة أكثر بعد تجربة مفاوضات أعطت غطاء لتنفيذ مخططات الاحتلال بمباركة الحليف الأمريكي الذي رهنّا له قرارنا السياسي مقابل تدفق مساعدات اقتصادية وعسكرية وكف شر إسرائيل عن الجبهة الشرقية.
الفلسطينيون بالتحديد سيدفعون ثمنا باهظا, بخاصة الرئيس عباس المنتهية ولايته. ولن ينجو الأردن من تبعات الإخفاق وكذلك ما تبقى من منظومة "دول الاعتدال العربي".
لغز إطلاق المفاوضات تحول من صلب اللجنة الرباعية الدولية إلى واشنطن بعد أن انتظرت العواصم العربية صدور بيان عن الأولى منذ يوم الثلاثاء الماضي. ويبدو أن الإدارة الأمريكية نجحت في إطلاق صافرة المفاوضات على هوى إسرائيل بعد أسابيع من جولات مكوكية أقنعت أمريكا خلالها الفلسطينيين والعرب بمغامرة "المباشرة".
الدعوة لاستئناف المفاوضات "على أساس إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ عام 1967" لا يشكل ضمانة كافية لاسترداد حقوق الفلسطينيين. في المحصلة جاء البيان وصفيا لتصور الإدارة ومواقف طرفي التفاوض لكن بلغة عامة بحيث لا يتعارض مع مواقف الفلسطينيين والإسرائيليين. هذا ما تم الاتفاق عليه مع السفير ديفيد هيل, نائب جورج ميتشل, الذي عاد أخيرا من جولة مكوكية في رام الله, تل أبيب, عمان والقاهرة.
هذه اللغة غير الملزمة ستمنح إسرائيل حلا وسطا لتنتقل إلى المفاوضات المباشرة بحسب نقاط تتلاءم وسياستها القاضية بعدم توفير ضمانات تتصل بتمديد فترة تعليق البناء جزئيا في مستوطنات الضفة الغربية, المفترض انتهاؤها أواخر الشهر المقبل, بحسب دبلوماسيين مطلين على التحضيرات الدائرة.
واضح أن البيان حمل صبغة إعلانية وفرت "ورقة التوت" التي سيتمسك بها الفلسطينيون للنزول عن شجرة الزيتون المباركة إلى طاولة المفاوضات المباشرة. لكن ينتظر أن تواصل إسرائيل المناورة حول مضامين البيان. في الأثناء, ستواصل جرف ما تبقى من شجر وتدمير الحجر في الأراضي المحتلة وبناء جدار عازل, إن وقع عنه الرئيس الفلسطيني فسيصاب برضوض وربما كسور.
الأمريكيون أكدوا لعبّاس أنهم يتفهمون رفضه لمحادثات لا تفضي إلا لإقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة. لكن إسرائيل غير معنية بذلك, بل تفضل خيارا يعلق التوصل إلى حل قضايا الوضع النهائي بينما تعمل على تعزيز إجراءات سلام اقتصادي على حساب السياسي - الأمر الذي يسيّل لعاب بعض شركاء السلام المزعوم.
الانكسار الأخطر, بحسب دبلوماسيين عرب, جاء بعد أن أبلغت الإدارة الأمريكية عباس بأنها لا تستطيع ضمان استمرار تعليق النشاط الاستيطاني جزئيا حتى لو بدأت المفاوضات.
لكنهم قالوا له بوضوح إن "استئناف المحادثات يوفر لنا إمكانية لتقوية عيننا على الإسرائيليين لأن الحراك يبقى أفضل من الجمود", بحسب أحد الدبلوماسيين الذين تحدثوا لكاتبة المقال. كذلك أبلغت واشنطن الفلسطينيين والعرب أنها لن تدعم أي جهد عربي لتحويل الملف إلى الأمم المتحدة في حال فشلت المفاوضات المباشرة, بخلاف ما لوّح به المسؤولون عقب اجتماعات مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية.
الانقلاب في الموقف الأمريكي لمصلحة إسرائيل تجلّى لأصحاب القرار العربي بعد زيارة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إلى واشنطن مطلع الشهر الماضي. فأوبوما أدرك على ما يبدو شدة تأثير اللوبي المساند لإسرائيل في الكونغرس على وضعه المهزوز وسلاسة أنشطة إدارته. وبات اليوم معنيا بكسب ود نتنياهو قبل اندلاع معركة انتخابات الكونغرس نصف الدورية أواخر العام. وهو يريد تسكين جبهة التفاوض السلمي المتعثرة أصلا ليركز على قضايا شرق أوسطية أكثر أهمية لمصالح بلاده العليا - إيران, العراق وأفغانستان.
وثمّة شكوك بأن أوباما توصل إلى صفقة سرية مع نتنياهو يخفف من خلالها الضغط على إسرائيل على جبهة السلام مقابل إرجاء قرارها باستخدام القوة العسكرية ضد إيران.
ويبقى السؤال لماذا يصر العرب, ومعهم عباس, على العيش في عالم الوهم السياسي والرضا بمقدمات لن تفضي إلى نتائج لمصلحتهم ولضمان استقرار الإقليم المضطرب? لماذا لم يتمسك الفلسطينيون, ومن ورائهم الشركاء العرب, بضمانات واضحة لمرجعية المفاوضات المباشرة حسب جداول زمنية محددة وإيضاحات حيال الخيارات المتوافرة في حال فشلت عملية تفاوضية صممت أصلا لحماية مصالح أمريكا وإسرائيل? وفي حال ارتطم الجميع بحائط مسدود بعد شهور, فما هي خياراتهم على ضوء التغير في موقف أوباما الذي احتفى به العالم حين قطف جائزة نوبل للسلام قبل أن ينفذ وعده بتسوية القضية الفلسطينية? فهل عليه الآن الإقرار بالفشل والتخلي عن الجائزة من منطلق أخلاقي?
الحقائق على الأرض تشي بأن أوباما كشف لونه السياسي الحقيقي. وهو غير قادر على مواجهة الإسرائيليين حتى ولو فاز بولاية رئاسية ثانية. ولن يستطيع إلا أن يواصل الضغوط على العرب والفلسطينيين.
قد يقول قائل إن عباس مجبر لا مخير. لا يجد من يدعمه ماديا ومعنويا, باستثناء المخصصات الأوروبية والأمريكية. وفي حال عارض مخططات أمريكا وإسرائيل فسيستبدل بخيارات فلسطينية جاهزة لفرض دولة الأمر الواقع? أما العرب ففي أسوأ حالاتهم. سيستمر الطرفان في القول إن المفاوضات حياة إلى أن تنتهي المفاوضات والحياة معا.
موقف المملكة العربية السعودية أقرب إلى "أضعف الإيمان". الرئيس المصري حسني مبارك لم يعد يرى شيئا أمامه إلا مسايرة الأمريكيين لضمان توريث الحكم لأبنه. سورية الوحيدة القادرة على المناورة بسبب تعدد خياراتها السياسية. وهي الدولة الوحيدة التي رفعت العلم الأحمر خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير متسائلة عن جدوى المفاوضات المباشرة وغير المباشرة? العراقيون مبتلون بأوضاع بلادهم المأساوي. أما الأردن, الحلقة الأضعف في المعادلة السياسية الإقليمية, فلم يعد يمتلك الكثير من أوراق لعبة التفاوض بعد أن قرر قبل سنوات وضع جميع "بيضاته" في سلة "العم سام" العميقة والرهان على خيرات تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة وعلاقات قوية مع إسرائيل, تضمنها معاهدة سلام إشكالية وقعت عام .1994
نحن اليوم أمام مغامرة سلام أخيرة هدفها الاستجابة لمصالح أمريكا وإسرائيل على حساب الفلسطينيين ومصالح دول معسكر الاعتدال. الأردن يعي بأن عليه البقاء في حلبة لعبة السلام دون معارضة سياسات أوباما ونتنياهو. لكن وبالنفس ذاته, فإن عمّان تعي أنها لا تستطيع تحمل تبعات قيام كيان فلسطيني منقوص السيادة وغير قابل للحياة ما سيفرض عليها ربط هذا الكيان مع عمقها , بينما تستغل إسرائيل فترة إدارة أزمة التفاوض لكسب الوقت وخلق وقائع جديدة غير قابلة للتغيير.
المأزق الأردني يزيد صعوبة مع استمرار تعليق قضايا الحل النهائي وسط قنبلة ديمغرافية وأزمة هوية مستفحلة, مع انقسام الجبهة الداخلية, تفاقم الصعوبات الاقتصادية وتراجع الإصلاحات السياسية لحين حل القضية الفلسطينية. يتزامن مع ذلك تحركات مجتمعية مطالبية من عمال المياومة إلى المعلمين وانتهاء بالمتقاعدين الذين شكلوا على الدوام العمود الفقري للنظام. كيف سيؤثر مأزق المفاوضات المباشرة على الأردن بعد سنوات عندما تبدأ الضغوط الأمريكية والأوروبية المباشرة لدفع ثمن استحقاق غياب دولة فلسطينية مستقلة. وقد ينضم إلى ركب الحراك الاجتماعي الشرق أردني تحرك من مكونات أخرى لا تريد الاستمرار في مهزلة السلام.
أما سائر العرب فلن يبقى لديهم ماء وجه. كيف سيكون حراكهم "الخطابي" لو قررت إسرائيل شن هجوم استيطاني واسع في القدس السليبة أثناء المفاوضات المباشرة? ولماذا لم يحصنوا موقعهم من خلال صعود جماعي للشجرة برفقة الرئيس عباس, بدلا من السقوط والارتطام بالأرض بدون شبكة أمان?.0
العرب اليوم
rana.sabbagh@alarabalyawm.net