لا غرابة أن تأثير الدراما ودورها الثقافي والتربوي في تشكيل وعي الناس والتأثير على سلوكياتهم واعتقاداتهم الفكرية، قد فاق في كثير من الأحيان دور المؤسسات التعليمية والبيوت، ذلك أن المشاهد يقبل على الدراما بطواعية. وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة مواصلة الدراما العربية بث مسلسلات تحكي عن العنف ضد النساء والأبناء في قصص غرائبية تصيب المشاهد بالشده والغثيان، ويزيد من ذلك أن غالبية هذه القصص تتشابه مع مصائر نساء كثيرات. على الرغم أن دعوات الهيئات الحقوقية المدنية العربية المناهضة للعنف ضد النساء ليست وليدة اللحظة، فهي قديمة قدم مشاريع النهضة، التي سبقت كل هذه القصص والمسلسلات.
ورغم تحفظ الكثيرين على مسلسل "فاتن أمل حربي" ومرجعية المؤلف وبناء الشخصيات، إضافة إلى جرعة التراجيديا المكثفة في العمل وضعف الإسناد الديني فيه. غير أنه يكاد يشكل الترجمة الدرامية لعنف قديم، إذ اشتغل على عدة حقول نسوية أساسية. منها: العنف الجسدي واللفظي والنفسي، وقانون الحضانة، والولاية التعليمية ونظرة المجتمع وقوانينه المجحفة بحق المرأة. وحين نقرأ ذروة العنف في المسلسل ونرى ما أورده حتى هذه اللحظة، نشعر بالفزع.
والحقيقة أن نزاعات كثيرة بين الأزواج، تتداول داخل أروقة المحاكم مع بداية كل عام دراسي تحت مسمى " الولاية التعليمية". إذ ترغب الأم بإلحاق أبنائها بمؤسسة تعليمية معينة، بينما يرفض الأب ذلك. وقد يلجأ البعض إلى سحب الملفات الدراسية لأبنائهم كوسيلة ابتزاز للأم للتنازل عن حقوق معينة أو لإرغامها للعودة عن قرار الانفصال. وقد ترضخ الأم في حالات كثيرة مدفوعة بالحاجة والضرورة. والضحية معها بالتأكيد هم الأبناء الذين يحملون من البراءة ما يجعلهم غير قادرين على الموافقة أو الرفض ولا حتى طرح الأسئلة لتكوين فكرة عما ينتظرهم في المستقبل. ويبدو جليا في الكثير من القصص المشابهة أن المرأة الضعيفة أو المستضعفة، لا تصمد طويلا في نضالاتها، ولا تجد من يساندها في سد الفجوة الجارحة بين غريزتها كأم وعجزها، حتى المؤسسات الحقوقية فهي وإن كانت تستجيب حينا على وقع قصص مثيرة، فقد كانت تخفت استجابتها أحيانا تحت الضغوط الدينية والاجتماعية.
كل ما سبق، يطرح مسائل أقرب وأوضح للتناول، ومنها مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم وضمائرهم ورسائلهم. كذلك سعي المؤسسات الحقوقية والجهات القانونية إلى الاقتراب من العدالة. وهي طريق وإن كانت مليئة بالتناقضات الشائكة في العالم العربي، إلا أنها ليست قدرا ولا طبيعة. ولعل أقرب الترجمات إلى الواقع أن الظلم المتفشي ضد النساء والأبناء يعني غياب الإنسانية والحرية والعقلانية وهو كنسبة أكبر بكثير من الظلم الواقع على الرجال، والشواهد كثيرة. وقبل أن نواصل ندب ما يحدث وكي لا تغرق نساء أخريات في الظلمات أكثر، وحتى لا يضطر الأبناء لمواجهة مصائر مجهولة، يجب أن نقر سلفا أن تجليات التناقضات هذه كلها ما هي إلا انعكاسات أوهام وعادات وأفكار كانت سائدة ومسيطرة. وإذا لم نستطع مواجهتها والتغلب عليها، فإن العيب الأساسي يكمن فينا.
هذه الحال المريعة، تستدعي وجود تشريعات صارمة في الدول العربية كافة، تمنع زج الأبناء في الصراعات الدائرة بين الأزواج، مع وجود تعهدات تكفل لهم حق الاستقرار المعيشي واستمرار حصولهم على التعليم بما لا يضر بمصالحهم ومشاعرهم. أيضا، لا بد من وجود اختصاصيين في علم الاجتماع يتبعون المؤسسات التعليمية والقضائية للوقوف على ما يدور في خلجات الأبناء وما لا يجرؤون على البوح به، كل ذلك للحؤول دون تردي الحالة النفسية لهم بما قد يودي بهم إلى مصائر لا يحمد عقباها.
ليست المسألة انفعالا أو تغليبا لجنس على الآخر، لكن إذا لم يتمكن كل مسؤول عن عائلة، أبا كان أم أما من مواجهة نفسه أولا ثم مواجهة الطرف الآخر، وفهم نقاط القوة والضعف في تكوينه الفكري والعقلي والنفسي ووضع العلاقة التي تربط بينهما بصورة موضوعية وبعيدة عن مفهوم القوامة وحب الذات وهوس التملك والسيطرة وصراع السلطة بين الطرفين، وجعل مصلحة الأبناء في أول سلم الأولويات والأهداف المرجوة من هذه العلاقة. فلا أحد بعد ذلك مسؤول عن خيباتهم سوانا.
وما يراد التأكيد عليه هنا أنه أن الثقافة المجتمعية مطلوبة بذاتها لصياغة أفكار وعلاقات أكثر وعيا لإعادة العربة إلى سكتها وإزاحة العراقيل من أمامها. وعلى الرغم أن الأعمال الدرامية التي تتبنى هذه القضايا غالبا تهدف إلى شق طريق التغيير والتوجه نحوه، وقد ينتج عنها حراك شعبي وسياسي ينضوي عنهما تطويرا وتعديلات في القوانين المنظمة للحقوق. لكننا في الحقيقة قد لا نكون بحاجة إلى الكثير من البراهين لندرك أن هذه ليست حربا، وأن كل إنسان -ذكرا كان أم أنثى- يعرض سلام ومستقبل أبنائه لهذا الضرر، هو أسوأ وأشد عنفا من أي مجرم!