في حتميّة الموت والحياة تتقاطع استثنائية الألم
وليد شنيكات
17-04-2022 09:55 AM
يميل الإنسان بطبعه إلى رفض فكرة الموت المتحقّق له حتى وإن وقع على أعزّ الناس عليه، ولا أعني الموت بمنزلة القضاء والقدر الذي لا رادّ له، إنما استيعاب الحدث وتقبّله بمجمله، ولو لم تكتمل صورته في الأذهان. فكلنا يظلّ يتطيّر من الموت ويحاول أن يستبعده عن عالمه الأوحد ويُمنّي النفس بأن يُعمّر أكثر مما هو مُعمّر له.
نقف كل يوم أمام المرآة، مرات ومرات، نجرّب الضحكات الذابلة، ونبدّل الابتسامة تلو الابتسامة، لعلنا نظفر بتقسيمة حسنة المظهر، ولو عابرة، تخفّف من وعثاء النفس المثقلة بالهموم، ومع هذا فإننا "نتغابى"، ونتغافل عن حجم الاضمحلال الذي سكن وجوهنا وما انعكس عليها من آثار عياء السنّ المتقدم وهموم الحياة المتصلة.
ومع ذلك، يبقى للموت الرهيب خصوصيته وتفرّده في جدلية الفناء والخلود في رحلة العمر المتشابكة، وهي ثنائية تحمل في طيّاتها خليطاً من المشاعر المضطربة إزاء الزائر القاهر الذي ننكره مؤقتاً، ولا ينكرنا ما دام فينا، وما نلبث حتى يخيّم علينا الخضوع والاستكانة وتقبّل المُصاب الأليم النافذ بعد أن تزول الروح من البدن ويستقر النبأ العظيم في دواخلنا.
نعيش كلّ يوم مع هذه المفارقة العجيبة في استمرارية الحياة، أو زوالها، تغادرنا أرواح عزيزة، أو تغمرنا البهجة حين نستقبل أخرى أيضاً عزيزة، وتستوطن أعماقنا المتضادات من دون أن نملك ردّها أو الاستفسار عن مراميها الغيبية، نعيش معها كما هي، فكم من نعمة باطنها الرحمة وظاهرها العذاب ونقبل بها طواعية عاجزين غير معجّزين.
في غرفتين متجاورتين تفصل بينهما أمتار قليلة داخل المستشفى، تسمع هنا صرخة طفل يُولد للتوّ تدقّ أبواب الحياة، وفي الجوار تُودّع روحٌ صاحبها مستسلمةً، في استثنائية تتشكل في ثناياها ثنائية "الموت والحياة"، وجدلية "البقاء والرحيل" في رحلة العمر الطويل الشائكة بالأضداد.. الحلو والمر، السعادة أو الشقاء، والخوف والاطمئنان، والبداية والنهاية.
وفي غرف العمليات أيضاً تتشابك التفاصيل وتختلط المشاعر، وتطفو حكايا تحمل معها آهاتٍ موجعة وضحكات هستيرية في مشهدية تصدمك فيها المفارقات، تماماً كما هي مواكب الأفراح والأتراح، والأعراس والجنائز عندما تَعْلَق فجأةً أمام إشارة حمراء في الشارع العام، تمتزج من حولها أصوات الأغاني ونحيب الثكالى من نوافذ السيارات، وأنت تراقب مشدوهاً أيّ الفريق أحقّ باستثنائية اللحظة المفتوحة على المجهول.
كَمْ مِن أمٍّ حفظت جنينها في أحشائها من الموت وهي متوفاة، حتى يكتمل نموه، أو غرقت في غيبوبة أبديّة، فيخرج طفلها سليماً وهي تنتظر أجلَها، قِصص كثيرة تسجل مثل هذه الحوادث المؤلمة. وهناك مَن دفعن حياتهن وحياة أجنتهن في الوقت نفسه، فسبحان الذي يحيي النّار مِن الرّماد.
قبل شهرين تُوفي ابن صديق لي في العمل جرّاء حادث سير مأساوي، وقد ذرف المسكين على فلذة كبده خالص الدمع، وقدّم له أخلص الدعاء، فهو ولده الوحيد الذي ليس له من بَعده بَعد. فقد جاء إلى هذه الدنيا بعد سنوات من الصبر، ولأجل ذلك راجع أشهر الأطباء لكي تنجب زوجته، لكنهما لم يفرحا طويلاً، فقد خطف الموت وحيدهما وهما لا يدريان.
أيضاً، وقبل أيام تلقيت مكالمة من الوالد المفجوع، بدا عليه الفرح وهو يكلّمني مع أنه لم يمضِ وقت طويل حتى يندملَ جُرحه الغائر في سويداء القلب، ويودّعَ آلامه التي خلّفها فراق ولده معتز، إذ أسرّ لي أن زوجته حامل، وأنه سيكون أباً من جديد، ويأمل هو وزوجته بحياة مُزهرة عامرة بالفرح والسعادة مع مولودهما المنتظر.
هذه الدنيا تنبئ بطبيعتها بكل ما هو عظيم وشائك، آلامٌ هنا تَنزِف وأفراح هناك تُزفّ بالغِبطة والسرور، وغالباً ما تجدنا تصدمنا الصُدفة ونحتار كيف نستقبلها أو نتقبّلها، ومن يدخل غُرف الطوارئ يرى ما يوقع في النّفس العجب والسؤال، هنا دموعٌ مكتنزة بالفرح وبالقرب أيضاً تشهد دموع الحزن المثقلة بالألم لأناس جمعتهم الصدفة فقط.
تتقاطع حتميّة الموت والحياة في استثنائية الألم نفسه التي تَبرز في كلا المناسبتين معاً، من ذاتية الاحتضار أو الفناء الدنيوي إلى الخلود المُتأمل عند الإنسان الذي يُكابِد من أجل البقاء.