تقترن الروح بالجسد في زمان ومكان محددين؛ في رحم الأم باليوم العشرين بعد المئة، وتبدأ وقتئذٍ رحلة الحياة على مرحلتين، الاولى منهما مرحلة غيبية لا يشهدها صاحبها، تمتد من لحظة نفخ الروح لغاية الولادة في الشهر التاسع، ومكانها رحم الام، وتكون بلا مظاهر حياة كاملة، صامته بلا لباس ولا طعام ولا شراب كالذي نعرف، وكأن الانسان فيها يعيش كرواد الفضاء، طعام قليل ذو فيتامينات ضرورية بلا اخراج، ويعوم في فضاء معتم بلا جاذبية، وسرعان ما تنتهي بصراخ الولادة، الذي يؤذن ببداية المرحلة الثانية، حيث تتسم بمكابدة الدنيا ومشاقها - لقد خلقنا الانسان في كبد، ولكنها مرحلة ذات زينة ومتاع، زينة للجسد والروح معاً الى ان يفترقا بالموت، فيغور الجسد في بطن الارض من حيث أتى، والروح تعرج لبارئها من حيث نفخت، وبين الولادة والموت، يعيش الانسان في متناقضات زينة الروح والجسد.
عادةً ما يهتم الانسان بزينة جسده، فيلبس من اجمل اللباس ما يظهره بقوام حسن، ويختار من الالوان ما هو متناسق جميل، ومن الانواع ما يناسب كل غاية من مراحل حياته، فتلك بدلات وفساتين رائعة للمناسبات العامة، وغيرها ألبسة تناسب العمل المكتبي والميداني، وذاك لباس للنوم مريح، وغيره للرياضة مرن مناسب، وهكذا يتقلب جسده بينها ويختار منها أجمله وأروعه، بل ويجدد هذا اللباس كلما قدم وبلى، ليشتري او يفصل غيره ويواكب عصره وعمره، فهو يعطي لباس الجسد اهمية قصوى، حتى لو لم يجد مالا كافيا لذلك، حتى قيل بالأمثال، اخرج للناس جوعانا ولا تخرج لهم عريانا، فيقدم أولوية لباسه الذي يستره أمام الناس على جوع بطنه المخفي عنهم، وكل هذا اهتمام منقطع النظير بلباس الجسد الفاني. لكنه غالبا ما ينسى لباس الروح وزينتها، وأهمه واعلاه التقوى، قال تعالى : يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ - ٢٦ الاعراف، فلباس التقوى يخص الروح، وذكر بآية أخرى مع لباس الجسد بعد خمس آيات من ذات السورة اذ قال تعالى :يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - ٣١ الاعراف، وقيل ان الآيتين نزلتا في رجال قريش ونسائهم، حيث كانوا يطوفون بالكعبة عراة بلا لباس، الرجال بالنهار والنساء بالليل، وفي الآيتين عمق آخر ببعدين أخرين غاية بالأهمية.
لباس الروح وزينتها بذي أهمية لا تقل عن لباس الجسد، فهي التي يجب ان تُخفى سوءتها، وتُجمّل بأخلاقها، ويتخير لها صاحبها من جمال الذوق ما يكفيها، ومن عميق التقوى ما يزكيها، ومن عطر الاخلاق ما يفوح بالآفاق، لتكون محبوبة عند الناس وعند الله، فهناك أرواح زكية طاهرة، وأخرى خبيثة نجسة، هي تماما كالأجساد ولا تختلف عنها بهذا، لذلك قال تعالى في سورة النور الاية ٢٦ (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، والخبث والطيب هنا يخص القول والاخلاق، التي تتبع للنفوس الطيبة او الخبيثة، ولا يقصد بها الرجال والنساء، والا لما كانتا امرأتا نوح ولوط - الانبياء - غير صالحتين وخائنتين (فخانتاهما) ، ولا كانت امرأة فرعون - الظالم - مؤمنة صالحة، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ومن عهد عنه الطيبات بالقول والفعل لا يقبل عليه خباثتهما والعكس صحيح، ذكرا كان ام أنثى، روحا وجسدا.
عندما تجتمع الزينتان معاً في المرء - زينة جسده وزينة روحه - يكون بذلك قد أدى ما عليه تجاههما فترة تلاقيهما بحياته، فلا تطغى هذه على تلك بإسراف، ولا تلك تقصر عن هذه بتقتير، فيوازن المرء مسؤولية حمليهما عن يمين وعن شمال كاهليه، لتستقيم مسيرة حياته مع نفسه ومع الناس ومع الله، الذي يراهما معا في كل خفقة قلب وموطئ قدم. فيجدر به ان يختار لروحه اصدقاء ناصحين اوفياء يناسبون فكره وروحه، ويختار من الاخلاق الصادقة الرفيعه ما تظهره جميلا كجمال لباسه المختار بعناية، ويختار من عبادته اتمها واحسنها ما يرضاه الله تعالى، ويختار لروحه لباسا تقيا جميلا لكل مرحلة من حياته، في نومه قرير العين غير ظالم ولا معتدي، وفي معاشه رزقا حلالا طيبا غير فاسد ولا خبيث، وفي عمله اتقانا واخلاصا، وفي كل شأن من شؤونه ما لا يدنس نفسه على الاقل، وكما قال احمد شوقي، صنت نفسي عما يدنس نفسي، وترفعت عن جدا كل جبس. وبهذا يكتمل جمال التوأمين، روحه والجسد، الى ان يلقى الله طاهرا، سليم القلب واليد واللسان.
خلاصة القول، هما لباسي الزينة للمرء، يعرى بدونهما سيان الروح والجسد، هما الازار والرداء للباقي منهما والفاني، وعلى حد سواء وبنفس الاداء. فيا حبذا لو نظر احدنا لكليهما بنفس المكيال والمنظور - ونفسي لا تخلو من تقصير.